قوله تعالى : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها } ، اختلفوا في معنى الآية ، فقال بعضهم : هذه الآية مدنية . قال الكلبي : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة حسداً منهم ، فأتوه وقالوا : يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء فإن أرض الأنبياء الشام ، وهي الأرض المقدسة ، وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإن كنت نبياً مثلهم فأت الشام ، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم ، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله ، فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة . وفي رواية : إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويخرج ، فأنزل الله هذه الآية والأرض هاهنا هي المدينة . وقال مجاهد و قتادة : الأرض أرض مكة . والآية مكية ، هم المشركون أن يخرجوه منها ، فكفهم الله عنه حتى أمره بالهجرة ، فخرج بنفسه . وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية . وقيل : هم الكفار كلهم ، أرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه ، فمنع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوا . والاستفزاز هو الإزعاج بسرعة . { وإذاً لا يلبثون خلافك } أي : بعدك ، وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص و يعقوب خلافك اعتباراً بقوله تعالى : { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } [ التوبة – 81 ] ، ومعناهما واحد . { إلا قليلاً } أي : لا يلبثون بعدك إلا قليلاً حتى يهلكوا ، فعلى هذا القول الأول : مدة حياتهم ، وعلى الثاني : ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى أن قتلوا ببدر .
{ وإن كادوا } وان كاد أهل مكة . { ليستفزّونك } ليزعجوك بمعاداتهم . { من الأرض } أرض مكة . { ليُخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلفك } ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك . { إلا قليلا } إلا زمانا قليلا ، وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته بسنة . وقيل الآية : نزلت في اليهود حسدوا مقام النبي بالمدينة فقالوا : الشام مقام الأنبياء فإن كنت نيا فالحق بها حتى نؤمن بك ، فوقع ذلك في قلبه فخرج مرحلة فنزلت ، فرجع ثم قتل منهم بنوا قريظة وأجلى بنو قريظة وأجلى بنو النضير بقليل . وقرئ " لا يلبثوا " منصوبا ب { إذا } على أنه معطوف على جملة قوله : { وإن كادوا لسيتفزونك } لا على خبر كاد فإن إذا لا تعمل إذا كان معتمدا ما بعدها على ما قبلها وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص { خلافك } وهو لغة فيه قال الشاعر :
عطف على جملة { وإن كادوا ليفتنونك } [ الإسراء : 73 ] تعداداً لسيئات أعمالهم . والضمائر متحدة .
والاستفزاز : الحمل على الترحل ، وهو استفعال من فَزّ بمعنى بارح المكان ، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازاً ، أي خارجاً من مكة . وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله : { واستفزز من استطعت } في هذه السورة [ الإسراء : 64 ] . والمعنى : كادوا أن يخرجوك من بلدك . وذلك بأن هَمُّوا بأن يخرجوه كرهاً ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجراً عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يُبقوه بينهم حتى يقتلوه .
والتعريف في { الأرض } تعريف العهد ، أي من أرضك وهي مكة .
وقوله : { ليخرجوك } تعليل للاستفزاز ، أي استفزازاً لقصد الإخراج .
والمراد بالإخراج : مفارقة المكان دون رجوع . وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز لأن الاستفزاز أعم من الإخراج .
وجملة { وإذا لا يلبثون خلفك } عطف على جملة { وإن كادوا } ، أو هي اعتراض في آخر الكلام ، فتكون الواو للاعتراض و ( إذاً ) ظرفاً لقوله : { لا يلبثون } وهي ( إذ ) الملازمة الإضافة إلى الجملة .
ويجوز أن يكون ( إذاً ) حرف جواب وجزاء لكلام سابق . وهي التي نونها حرف من الكلمة ولكن كثرت كتابتها بألف في صورة الاسم المنون . والأصل فيها أن يكون الفعل بعدها منصوباً ب ( أن ) مضمرة ، فإذا وقعت بعد عاطف جاز رفع المضارع بعدها ونصبه .
ويجوز أن تكون ( إذاً ) ظرفاً للزمان ، وتنوينها عوض عن جملة محذوفة على قول جماعة من نحاة الكوفة ، وهو غير بعيد . ألا ترى أنها إذا وقعت بعد عاطف لم ينتصب بعدها المضارع إلا نادراً لانتفاء معنى التسبب ، ولأنها حينئذٍ لا يظهر فيها معنى الجواب والجزاء .
والتقدير : وإذَا أخرجوك أو وإذا خرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلاً .
و { خلفك } أريد به بعدك . وأصل الخلف الوراء فاستعمل مجازاً في البعدية ، أي لا يلبثون بعدك .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف { خلافك } وهو لغة في خلف . وتقدم عند قوله تعالى : { بمقعدهم خلاف رسول الله } [ التوبة : 81 ] .
واللبث : الاستقرار في المكان ، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون . وقد خرج رسول الله بعد ذلك مهاجراً وكانوا السببَ في خروجه فكأنهم أخرجوه ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } في سورة [ البقرة : 191 ] ، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلاً ثم خرجوا إلى وقعة بدر فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا وحق عليهم الوعيد ، وأبقى الله عامتهم ودهاءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك .
وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه ، أي المتسببين في خروجه ، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.