البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا} (76)

قال حضرمي : الضمير في { وإن كادوا } ليهود المدينة وناحيتها كحيي بن أخطب وغيره ، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء ، وإنما أرض الأنبياء الشام ، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبياً فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فنزلت ، وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يلبثهم بعد { إلاّ قليلاً } .

وحكى النقاش أنه خرج بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت ورجع .

قال ابن عطية : وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه ، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة انتهى .

وقالت فرقة : الضمير لقريش قاله ابن عباس وقتادة ، واستفزازهم هو ما ذهبوا إليه من إخراجه من مكة كما ذهبوا إلى حصره في الشعب ، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه { إلاّ قليلاً } يوم بدر .

وقال الزجّاج حاكياً أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله ، والأرض على هذا الدنيا .

وقال مجاهد : ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد تعالى استبقاء قريش وأن لا يستأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج بإذنه لا بقهر قريش ، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم قال : ولو أخرجته قريش لعذبوا .

ذهب مجاهد إلى أن الضمير في { يلبثون } لجميعهم .

وقال الحسن : { ليستفزونك } ليفتنونك عن رأيك .

وقال ابن عيسى : ليزعجونك ويستخفونك .

وأنشد :

يطيع سفيه القوم إذ يستفزه . . . ***ويعصي حليماً شيبته الهزاهز

والظاهر أن الآية تدل على مقاربة استفزازه لأن يخرجوه ، فما وقع الاستفزاز ولا إخراجهم إياه المعلل به الاستفزاز ، ثم جاء في القرآن { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } أي أخرجك أهلها .

وفي الحديث : « يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك قال : أو مخرجي هم » الحديث فدل ذلك على أنهم أخرجوه .

لكن الإخراج الذي هو علة للاستفزاز لم يقع فلا تعارض بين الآيتين والحديث .

وقال أبو عبد الله الرازي : ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله فزال التناقض انتهى .

{ ولا يلبثون } جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت { لا يلبثون } ولذلك لم تعمل { إذاً } لأنها توسطت بين قسم مقدر ، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب ، ويحتمل أن تكون { لا يلبثون } خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره ، وهم { إذاً لا يلبثون } فوقعت إذاً بين المبتدأ وخبره فألغيت .

وقرأ أُبيّ وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذاً فنصب بها على قول الجمهور ، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه القراءتين ؟ قلت : أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد ، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم .

وأما قراءة أُبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذاً لا يلبثوا عطف على جملة قوله { وإن كادوا ليستفزونك } انتهى .

وقرأ عطاء { لا يلبثون } بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة .

وقرأ يعقوب كذلك إلاّ أنه كسر الباء .

وقرأ الأخوان وابن عامر وحفص { خلافك } وباقي السبعة خلفك والمعنى واحد .

قال الشاعر :

عفت الديار خلافهم فكأنما . . . ***بسط الشواطب بينهن حصيرا

وهذا كقوله { فرح المخلفون بمقعدهم } خلاف رسول الله أي خلف رسول الله في أحد التأويلات .

وقرأ عطاء بن أبي رباح : بعدك مكان خلفك ، والأحسن أن يجعل تفسيراً لخلفك لا قراءة لأنها لا تخالف سواد المصحف ، فأراد أن يبين أن خلفك هنا ليست ظرف مكان وإنما تجوز فيها فاستعملت ظرف زمان بمعنى بعدك .

وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله ، في نحو خلفك أي خلف إخراجك ، أو جاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو ، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد .