معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَـٰٓئِبُكُمُ ٱلَّـٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّـٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَـٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (23)

قوله تعالى :{ حرمت عليكم أمهاتكم } . الآية . بين الله تعالى في هذه الآية المحرمات بسبب الوصلة ، وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربعة عشر : سبع بالنسب ، وسبع بالسبب . فأما السبع بالسبب فمنها اثنتان بالرضاع ، وأربع بالصهرية ، والسابعة المحصنات ، وهن ذوات الأزواج . وأما السبع بالنسب :

قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } . وهي جمع أم ، ويدخل فيهن الجدات وإن علون من قبل الأم ومن قبل الأب .

قوله تعالى : { وبناتكم } . وهي جمع البنت ، ويدخل فيهن بنات الأولاد وإن سفلن . قوله تعالى : { وأخواتكم } . جمع الأخت سواء كانت من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما . قوله تعالى : { وعماتكم } . جمع العمة ، ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علوا .

قوله تعالى : { وخالاتكم } . جمع خالة ، ويدخل فيهن جميع أخوات أمهاتك وجداتك .

قوله تعالى : { وبنات الأخ وبنات الأخت } . ويدخل فيهن بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن . وجملته أنه يحرم على الرجل أصوله ، وفصوله ، وفصول أول أصوله ، وأول فصل من كل أصل بعده ، والأصول هي : الأمهات ، والجدات ، والفصول : البنات ، وبنات الأولاد . وفصول أول أصوله هي : الأخوات ، وبنات الإخوة والأخوات ، وأول فصل من كل أصل بعده هن العمات . والخالات وإن علون . وأما المحرمات بالرضاع .

قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } . وجملته أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ) .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي قال : أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها ، وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة ، فقالت عائشة رضي الله عنها : قلت : يا رسول الله ، هذا رجل يستأذن في بيتك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه فلانا ، لعم حفصة من الرضاعة ، فقلت : يا رسول الله . لو كان فلان حياً -لعمها من الرضاعة- أيدخل علي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم " إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة " . وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين :أحدهما أن يكون قبل استكمال المولود حولين : لقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] . وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا رضاع إلا ما أنشر العظم ، وأنبت اللحم ) . وإنما يكون هذا في حال الصغر ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ، مدة الرضاع ثلاثون شهراً . لقوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } . [ الأحقاف : 15 ] ، وهو عند الأكثرين لأقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع ، وأقل مدة الحمل ستة أشهر . والشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات ، يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها ، وبه قال عبد الله بن الزبير ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى . وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم . وهو قول ابن عباس ، وابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب سفيان الثوري ومالك والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأصحاب الرأي ، واحتج من ذهب إلى أن القليل لا يحرم بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو العباس الأصم ، أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم ، أنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان } . هكذا روى بعضهم هذا الحديث ورواه عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ثم نسخن ( بخمس معلومات ) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن ، وأما المحرمات بالصهرية :

قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } . وجملته أن كل من عقد النكاح على امرأة فتحرم على الناكح أمهات المنكوحة ، وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب بنفس العقد .

قوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } . الربائب جمع ربيبة ، وهي بنت المرأة ، سميت ربيبة لتربيته إياها ، وقوله : { في حجوركم } أي : في تربيتكم ، يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته .

{ دخلتم بهن } . أي جامعتموهن . ويحرم عليه أيضاً بنات المنكوحة ، وبنات أولادها وإن سفلن من الرضاع والنسب بعد الدخول بالمنكوحة ، حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها ، أو ماتت ، جاز له أن ينكح بنتها ، ولا يجوز له أن ينكح أمها لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات ، وقال في تحريم الربائب :

قوله تعالى : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } . يعني : في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن ، أو متن ، وقال علي رضي الله عنه : أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت كالربيبة .

قوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } . يعني أزواج أبنائكم ، واحدتها : حليلة ، والذكر حليل . سميا بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه ، وقيل : سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل حيث يحل صاحبه . من الحلول وهو النزول ، وقيل : إن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه ، من الحل وهو ضد العقد . وجملته أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه ، وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد ، وإنما قال { من أصلابكم } ليعلم أن حليلة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم . والرابع من المحرمات بالصهرية ، حليلة الأب والجد وإن علا ، فيحرم على الولد وولد الولد بنفس العقد سواء كان الأب من الرضاع أو من النسب لقوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } . وقد سبق ذكره ، وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين ، والوطء بشبهة النكاح حتى لو وطئ امرأة بالشبهة أو جارية بملك اليمين فتحرم على الواطئ أم الموطوءة وابنتها ، وتحرم الموطوءة على أبي الواطئ وعلى ابنه ، ولو زنى بامرأة فقد اختلف فيه أهل العلم ، فذهبت جماعة إلى أنه لا تحرم على الزاني أم المزني بها وابنتها ، ولا تحرم الزانية على أبي الزاني وابنه ، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما . وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والزهري ، واليه ذهب مالك ، والشافعي رحمهم الله تعالى ، وذهب قوم إلى التحريم ، يروى ذلك عن عمران بن حصين ، وأبي هريرة رضي الله عنهما . وبه قال جابر بن زيد ، والحسن ، وهو قول أصحاب الرأي ، ولو مس امرأة بشهوة أو قبلها فهل يجعل ذلك كالدخول في إثبات حرمة المصاهرة ؟ وكذلك لو لمس امرأة بشهوة فهل يجعل كالوطء في تحريم الربيبة ؟ فيه قولان : أصحهما وهو قول أكثر أهل العلم ، أنه تثبت به الحرمة ، والثاني لا تثبت ، كما لا تثبت بالنظر بالشهوة .

قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } . لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الأخوة بينهما بالنسب أو بالرضاع ، فإذا نكح امرأة ثم طلقها بائناً جاز له نكاح أختها ، وكذلك لو ملك أختين بملك اليمين لم يجز له أن يجمع بينهما في الوطء ، فإذا وطئ إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرم الأولى على نفسه ، وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها ) .

قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } . يعني لكن ما مضى فهو معفو عنه لأنهم كانوا يفعلونه قبل الإسلام ، وقال عطاء والسدي : إلا ما كان من يعقوب عليه السلام ، فإنه جمع بين ليا أم يهوذا ، وراحيل أم يوسف ، وكانتا أختين .

قوله تعالى : { إن الله غفورا رحيما } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَـٰٓئِبُكُمُ ٱلَّـٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّـٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَـٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (23)

هذه الآيات الكريمات مشتملات على المحرمات بالنسب ، والمحرمات بالرضاع ، والمحرمات بالصهر ، والمحرمات بالجمع ، وعلى المحللات من النساء . فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللاتي ذكرهن الله .

الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة ، وإن بعدت ، ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة ، والأخوات الشقيقات ، أو لأب أو لأم . والعمة : كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا .

والخالة : كل أخت لأمك ، أو جدتك وإن علت وارثة أم لا . وبنات الأخ وبنات الأخت أي : وإن نزلت .

فهؤلاء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة .

وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت . وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها ، إنما هو لصاحب اللبن ، دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم{[204]} .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب ، وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط . لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة .

وأما المحرمات بالصهر فهن أربع . حلائل الآباء وإن علوا ، وحلائل الأبناء وإن نزلوا ، وارثين أو محجوبين . وأمهات الزوجة وإن علون ، فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد .

والرابعة : الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت ، فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } الآية .

وقد قال الجمهور : إن قوله : { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له ، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان :

إحداهما : فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها .

والثانية : فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن . والله أعلم .

وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما ، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام .


[204]:- في ب: وأصولهما وفروعهما.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَـٰٓئِبُكُمُ ٱلَّـٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّـٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَـٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (23)

{ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن أنه معظم ما يقصد منهن ، ولأنه المتبادر إلى الفهم كتحريم الأكل من قوله : { حرمت عليكم الميتة } ولأن ما قبله وما بعده في النكاح ، وأمهاتكم تعم من ولدتك أو ولدت من ولدك وإن علت ، وبناتكم تتناول من ولدتها أو ولدت من ولدها وإن سفلت ، وأخواتكم الأخوات من الأوجه الثلاثة . وكذلك الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد ذكرا ولدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبا أو بعيدا ، وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى . { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } نزل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما والمرضعة أختا ، وأمرها على قياس النسب باعتبار المرضعة ووالد الطفل الذي در عليه اللبن قال عليه الصلاة والسلام : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) . واستثناء أخت ابن الرجل وأم أخيه من الرضاع من هذا الأصل ليس بصحيح فإن حرمتهما من النسب بالمصاهرة دون النسب . { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ذكر أولا محرمات النسب ثم محرمات الرضاعة ، لأن لها لحمة كلحمة النسب ، ثم محرمات المصاهرة فإن تحريمهن عارض لمصلحة الزواج ، والربائب جمع ربيبة . والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه كما يرب ولده في غالب الأمر ، فعيل بمعنى مفعول وإنما لحقه التاء لأنه صار اسما ومن نسائكم متعلق بربائبكم . واللاتي بصلتها صفة لها مقيدة للفظ والحكم بالإجماع قضية للنظم . ولا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لأن من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية ، وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل وجب أن يكون بيانا لنسائكم والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء اللهم إذا جعلتها للاتصال كقوله :

إذا حاولت في أسد فجورا *** فإني لست منك ولست مني

على معنى أن أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما فقال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها " إنه لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها " . وإليه ذهب عامة العلماء ، غير أنه روي عن علي رضي الله تعالى عنه تقييد التحريم فيهما . ولا يجوز أن يكون الموصول الثاني صفة للنساءين لأن عاملهما مختلف ، وفائدة قوله { في حجوركم } تقوية العلة وتكميلها ، والمعنى أن الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن وهن في احتضانكم أو بصدده تقوى الشبه بينها وبين أولادكم وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم لا تقييد الحرمة ، وإليه ذهب جمهور العلماء . وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه جعله شرطا ، والأمهات والربائب يتناولان القريبة والبعيدة ، وقوله دخلتم بهن أي دخلتم معهن الستر وهي كناية عن الجماع ، ويؤثر في حرمة المصاهرة ما ليس بزنا كالوطء بشبهة ، أو ملك يمين . وعند أبي حنيفة لمس المنكوحة ونحوه كالدخول . { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } تصريح بعد إشعار دفعا للقياس . { وحلائل أبنائكم } زوجاتهم ، سميت الزوجة حليلة لحلها أو لحلولها مع الزوج . { الذين من أصلابكم } احتراز عن المتبنين لا عن أبناء الولد { وأن تجمعوا بين الأختين } في موضع الرفع عطفا على المحرمات ، والظاهر أن الحرمة غير مقصورة على النكاح فإن المحرمات المعدودة كما هي محرمة في النكاح فهي محرمة في ملك اليمين ، ولذلك قال عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما حرمتهما آية وأحلتهما آية ، يعنيان هذه الآية . وقوله : { أو ما ملكت أيمانكم } فرجح علي كرم الله وجهه التحريم ، وعثمان رضي الله عنه التحليل . وقول علي أظهر لأن آية التحليل مخصوصة في غير ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام " { إلا ما قد سلف } استثناء من لازم المعنى ، أو منقطع معناه لكن ما قد سلف مغفور لقوله : { إن الله كان غفورا رحيما } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَـٰٓئِبُكُمُ ٱلَّـٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّـٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَـٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (23)

وقوله تعالى : { حرمت عليكم } الآية ، حكم الله به سبعاً من النسب ، وستاً من بين رضاع وصهر ، وألحقت السنة المأثورة سابعة ، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ، ومضى عليه الإجماع ، وروي عن الأنصار : مثل ذلك ، وجعل السابعة قوله تعالى : { والمحصنات من النساء } [ النساء : 24 ] ، وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه ، ويسميه أهل العلم – المبهم_أي لا باب فيه ، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته ، وكذلك تحريم البنات والأخوات ، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل من ولدها وإن سفلت ، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن ، والعمة أخت الأب ، والخالة أخت الأم ، كذلك فيهما العموم والإبهام ، وكذلك عمة الأب وخالته ، وعمة الأم وخالتها ، وكذلك عمة العمة ، وأما خالة العمة فينظر ، فإن كانت العمة أخت أب لأم ، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة ، لأنها أخت الجدة ، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها ، تحل للرجال ، ويجمع بينها وبين النساء وكذلك عمة الخالة ينظر ، فإن كانت الخالة أخت أم لأب ، فعمتها حرام ، لأنها أخت جد ، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام ، سواء كانت الأخوة شقيقة . أو لأب أو لأم . وقرأ أو حيوة «من الرِّضاعة » بكسر الراء ، والرضاع يحرم ما يحرم النسب ، والمرضعة أم ، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة ، وفحل اللبن أب ، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة ، وقرأ ابن مسعود «اللاي » بكسر الياء ، وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي » بالإفراد ، كأنه من جهة الإبهام يقع مع الواحد والجماعة ، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } فقال جمهور أهل العلم : هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل ، فبالعقد على الابنة حرمت الأم ، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها ؟ قال : نعم ، هي بمنزلة الربيبة .

قال القاضي أبو محمد : يريد أن قوله تعالى : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } شرط في هذه ، وفي الربيبة وروي نحوه عن ابن عباس ، وروي عنه كقول الجمهور ، وروي عن زيد بن ثابت ، أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإن طلقها قبل أن يدخل بها ، فإن شاء فعل ، وقال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول ، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال : { أمهات نسائكم } مبهمة ، وإنما الشرط في الربائب ، وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن » ؟ فقال لا تترأ ، قال حجاج : قلت لابن جريج : ما تترأ ؟ قال كأنه قال : لا لا ، يرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحداً ، ومعناه : إذا اختلفا في العامل ، وهذه الآية قد اختلف فيها جنس العامل .

الربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته ، وربيبة : فعيلة بمعنى مفعولة ، وقوله تعالى : { اللائي في حجوركم } ذكر الأغلب في هذه الأمور ، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر ، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر ، لأنها في حكم أنها في الحجر ، إلا ما روي عن علي أنه قال : تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم ، إذا كانت بعيدة عنه ، ويقال : حِجَرْ بكسر الحاء وفتحها ، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس ، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلاً وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { دخلتم بهن } فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار : الدخول في هذا الموضع الجماع ، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء ، فإن ابنتها له حلال وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم : إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء ، والحلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، لأنها تحل مع الرجل حيث حل ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، وذهب الزجاج وقوم : إلى أنها من لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة ، وقوله : { الذين من أصلابكم } تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب ، وكان عندهم أمراً كثيراً قوى الحكم ، قال عطاء ابن أبي رباح : يتحدث - والله أعلم - أنها نزلت في محمد عليه السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة ، فقال المشركون : قد تزوج امرأة ابنه ، فنزلت الآية ، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم ، ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ){[3923]} ، وقوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين ، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح ، وأما بملك يمين ، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهم حسناً ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ، ذكره ابن المنذر ، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكاً فيمن كرهه .

قال القاضي أبو محمد : ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وبنتها ، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطىء واحدة ثم وطىء أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا . واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء ، إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمرو والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها ، قال ابن المنذر : وفيها قول ثان لقتادة ، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ، ثم يمسك عنها حتى يستبرىء الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية .

قال القاضي أبو محمد : ومذهب مالك رحمه الله ، إذا كان أختان عند رجل بملك ، فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته ، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله ، من إخراج عن الملك ، أو تزويج ، أو عتق إلى أجل ، أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ، ولم يبق ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم فيمن قد وطىء ، ولم يكن قبل متهماً إذا كان لم يطأ إلا الواحدة ، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال ، في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح ، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء ، وذلك مكروه إلا في الحيض ، لأنه أمر غالب كثير ، وفي الباب بعينه قول آخر : إن النكاح لا ينعقد ، وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة ، وثبت عن النبي صلى الله عليه أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] وذلك لأن الحديث من المتواتر ، وكذلك قوله عليه السلام ، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، قيل أيضاً إنه ناسخ ، وقوله تعالى : { إلا ما قد سلف } استثناء منقطع ، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره ، والإسلام يجبّه .


[3923]:- ورد في مواضع متعددة من صحيح البخاري، كما أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن.