قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } : " أمهات " جمع " أم " فالهاءُ زائدةٌ في الجمع ، فرقاً بين العقلاء وغيرهم . يقال في العقلاء : " أمهات " وفي غيرهم : " أُمَّات " كقوله :
وأُمَّاتِ أَطْلاءٍ صغارِ . . . . . ***
هذا هو المشهور ، وقد يقال : " أُمَّات " في العقلاء : و " أمهات " في غيرهم وقد جَمَع الشاعر بين الاستعمالين في العقلاء فقال :
إذا الأمَّهاتُ قَبُحْنَ الوجوهَ *** فَرَجْتَ الظلامَ بأُمَّاتِكا
وقد سُمع " أُمَّهة " في " أُم " بزيادةِ هاء ، بعدَها تاءُ تأنيث قال :
أُمَّهتي خِنْدِفُ والياسُ أبي ***
فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ " أمهات " جمعَ " أُمَّهة " المزيدِ فيها الهاء ، والهاءُ قد أتت زائدةً في مواضع/ قالوا : هِبْلَع وهِجْرَع من البَلْعِ والجَرْع .
قوله : { وَبَنَاتُكُمْ } عطفٌ على " أُمَّهاتكم " . وبنات جمع بنت ، وبنت تأنيث ابن ، وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى اشتقاقِه ووزنِه في البقرة في قوله :
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الآية : 40 ] ، إلا أن أبا البقاء حَكَى عن الفراء أنَّ " بنات " ليس جمعاً ل " بنت " يعني بكسرِ الباء بل جمع " بَنة " يعني بفتحِها ، قال : وكُسِرت الباء تنبيهاً على المحذوف " . قلت : هذا إنما يجيء على اعتقادِ أنَّ لامها ياء ، وقد تقدم لنا خلافٌ في ذلك وأن الصحيحَ أنها واو ، وحَكَى عن غيره أن أصلها : بَنوَة ، وعلى ذلك جاء جمعُها ومذكرها وهو بنون ، قال : " وهو مذهبُ البصريين " قلت : لا خلاف بين القولينِ في التحقيق ، لأنَّ مَنْ قال : بنات جمعُ " بَنة " بفتح الباء لا بد وأَنْ يعتقد أنَّ أصلها " بَنَوة " حُذِفَت لامُها وعُوِّض منها تاءُ التأنيث ، والذي قال : بنات جمع " بَنَوة " لَفَظَ بالأصل فلا خلاف .
واعلم أنَّ تاء " بنت " و " أخت " تاءُ تعويضٍ عن اللام المحذوفة كما تقدَّم تقريره ، وليست للتأنيثِ ، ويَدُلُّ على ذلك وجهان ، أحدهما : أنَّ تاء التأنيث يلزَمُ فتحُ ما قبلها لفظاً أو تقديراً نحو : ثمرة وفتاة ، وهذه ساكنٌ ما قبلَها . والثاني : أنَّ تاءَ التأنيث تُبْدَلُ في الوقفِ هاء ، وهذه لا تُبْدَلُ بل تُقَرُّ على حالِها . وقال أبو البقاء : " فإنْ قيل : لِمَ رُدَّ المحذوف في " أخوات " ولم يُرَدَّ في " بنات " ؟ قيل : حُمِل كل واحد من الجمعين على مذكَّرِهِ ، فمذكر " بنات " لم يُرَدَّ إليه المحذوف بل قالوا فيه " بنون " ، ومذكر " أخوات " رُدَّ فيه محذوفه قالوا في جمع أخ : إخْوة وإخْوان " .
وهذا الذي قاله ليس بشيء لأنه أَخَذَ جمع التكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً ل " أَخَوات " جمعَ التصحيح ، فقال : رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في إخوة ، وهذا أيضاً موجود في " بنات " ؛ لأنَّ مذكره في التكسير رُدَّ إليه المحذوف .
قالوا : ابن وأبناء ، ولَمَّا جمعوا أخاً جمع السلامة قالوا فيه " أَخُون " بالحذف ، فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفَهما ، ولم يَرُدَّوا في تصحيحهما ، فبان فساد ما قال .
قوله : { وَخَالاَتُكُمْ } ألف " خالة " و " خال " منقلبة عن واو ، بدليل جمعه على " أخوال " ، قال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ } [ النور : 61 ] .
قوله : { مِّنَ الرَّضَاعَةِ } : في موضعِ نصب على الحال فيتعلق بمحذوف تقديره : وأخواتُكم كائناتٍ من الرضاعة . وقرأ أبو حيوة : " من الرِّضاعة " بكسر الراء . { مِّن نِّسَآئِكُمُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من " ربائبكم " تقديره : " وربائبكم كائناتٍ من نسائكم " . والثاني : أنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في قوله : { فِي حُجُورِكُمْ } لأنه لَمَّا وقع صلةً تَحَمَّل ضميراً ، أي : اللاتي استَقْرَرْنَ في حُجُوركم .
والربائب : جمع " ربيبة " وهي بنت الزوج أو الزوجة ، والمذكر : ربيب ، سُمِّيا بذلك ؛ لأن أحد الزوجين يَرُبُّه كما يَرُبُّ ابنه . وقوله : { اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ } لا مفهومَ له لخروجه مخرج الغالب . الحُجُور : جمع " حِجْر " بفتحِ الحاءِ وكسرها ، وهو مقدَّمُ ثوبِ الإِنسان ثم استعملت اللفظُ في الحِفْظ والستر .
قوله : { اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } صفةٌ ل " نسائكم " المجرورِ ب " مِنْ " ، اشترط في تحريم الربيبة أن يُدْخَلَ بأمها .
ولا جائزٌ أن تكونَ صفة ل " نسائكم " الأولى والثانية لوجهين ، أحدهما : من جهة الصناعة ، وهو أن " نسائكم " الأولى مجرورةٌ بالإِضافة والثانية مجرورة ب " من " فقد اختلف العاملان ، وإذا اختلفا امتنع النعت ، لا تقول : " رأيت زيداً ومررت بعمرٍو العاقلين " على أن يكون " العاقلين " نعتاً لهما . والثاني من جهة المعنى : وهو أن أم المرأة تَحْرُم بمجردِ العَقْدِ على البنت دَخَلَ بها أو لم يَدْخُل بها عند الجمهور ، والربيبةُ لا تَحْرُم إلا بالدخولِ على أمها .
وفي كلام الزمخشري ما يلزم منه أنه يَجوز أَنْ يكونَ هذا الوصفُ راجعاً إلى الأولى في المعنى فإنه قال : { مِّن نِّسَآئِكُمُ } متعلق ب " ربائبكم " ومعناه : أن الربيبة من المرأةِ المدخولِ بها مُحَرَّمةٌ على الرجل حلالٌ له إذا لم يدخل بها . فإن قلت : هل يَصِحُّ أن يتعلق بقوله : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } ؟ قلت : لا يخلو : إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بهن وبالربائب فتكون حرمُتهن وحرمةُ الربائب غيرَ مبهمتين جميعاً ، وإمَّا أَنْ يتعلَّق بهن دونَ الربائبِ ، فتكونُ حرمتُهن غيرَ مبهمة وحرمةُ الربائب مبهمةً ، ولا يجوز الأول لأن معنى " من " مع أحد المتعلقين خلافُ معناها مع الآخر ، ألا تراك إذا قلت : " وأمهاتُ نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " فقد جَعَلْتَ " مِنْ " لبيان النساء وتمييزاً للمدخولِ بهنَّ مِنْ غيرِ المدخول بهنَّ ، وإذا قلت : " وربائبكم من نسائِكم اللاتي دَخَلْتُم بهن " فإنك جاعلٌ " مِنْ " لابتداءِ الغاية كما تقولُ : " بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة " ، وليس بصحيحٍ أَنْ يَعْني بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيين مختلفين ، ولا يجوز الثاني لأن الذي يليه هو الذي يستوجبُ التعليقُ به ما لم يَعْرِضْ أمرٌ لا يُرَدُّ ، إلا أَنْ تَقول : أُعَلِّقُه بالنساء والربائب ، وأجعل " من " للاتصال كقوله تعالى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ }
1565 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فإني لستُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي
ما أنا من ددٍ ولا ددٌ مِنِي ***
وأمهاتُ النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتُهن ، كما أن الربائب متصلاتٌ بأمهاتهن لأنهن بناتُهن ، هذا وقد اتفقوا على أن التحريم لأمهاتِ النساء مبهمٌ " . انتهى . ثم قال : " إلا ما رُوي عن علي وابن عباس وزيد وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤوا " وأمهاتُ نسائكم اللاتي دَخَلْتُم بهن " فكان ابن عباس يقول : " واللهِ ما أُنزل إلا هكذا " فقوله : " أعلقه بالنساء والربائب " إلى آخره يقتضي أن القيد الذي في الربائب وهو الدخول في أمهات نسائكم ، كما تقدم حكايته عن علي وابن عباس . قال الشيخ : " ولا نعلم أحداً أثبتَ ل " مِنْ " معنى الاتصال ، أما الآية والبيت والحديث فمؤولة .
قوله : { وَحَلاَئِلُ } جمع " حليلة " وهي الزوجة ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَحُلُّ مع زوجها حيث كان ، فهي فَعِيلة بمعنى فاعلة ، والزوج حليل كذلك ، قال :
أغشى فتاةَ الحَيِّ عند حليلِها *** وإذا غَزَا في الجيشِ لا أَغْشاها
وقيل : اشتقاقها من لفظ الحلال ؛ إذ كلٌّ منهما حلال لصاحبه ، وهو قول الزجاج وجماعة ، ف " فَعِيل " بمعنى مفعول أي : مُحَلَّلة له وهو محللٌ لها ، إلا أنَّ هذا يُضْعفُه دخولُ التأنيث ، اللهم إلا أن يقال إنه جرى مَجْرى الجوامد/ كالنطيحة والذبيحة . وقيل : هما من لفظ " الحَلّ " ضد العَقْد ؛ لأنَّ كلاً منهما يَحُلُّ إزارَ صاحبِه .
و { الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } صفةٌ مبينة ؛ لأنَّ الابن قد يُطْلق على المُتَبَنَّى به وليست امرأتُه حراماً على مَنْ تَبَنَّاه ، وأمَّا الابن من الرضاع فإنه وإنْ كان حكمُه حكمَ ابن الصُّلْب في ذلك فمبيَّنٌ بالسنة فلا يَرِد على الآية الكريمة .
وأَصْلاب : جمع " صُلْب " وهو الظهرُ ، سُمِّي بذلك لقوته اشتقاقاً من الصَّلابة ، وأفصحُ لغتَيْه : صُلْب بضمِ الفاء وسكون العين وهي لغة الحجاز ، وبنو تميم وأسد يقولون " صَلَباً بفتحهما ، حكى ذلك الفراء عنهم في كتاب " لغات القرآن " له ، وأنشد عن بعضهم :
في صَلَبٍ مثلٍ العِنانِ المُؤْدَمِ ***
وحكى عنهم : " إذا أَقُوم اشتكى صَلَبي " .
قوله : { وَأَن تَجْمَعُواْ } في محلِّ رفع عطفاً على مرفوع " حُرِّمت " أي : وحُرِّم عليكم الجمعُ بين الأختين ، والمرادُ الجمعُ بينهما في النكاح ، أمَّا في الملِْك فجائزٌ اتفاقاً ، وأمَّا الوطءُ بمِلكْ اليمين ففيه خلافٌ ليس هذا موضعَه .
قولُه : { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناءٌ منطقع ، فهو منصوبٌ المحل كما تقدَّم في نظيره أي : لكن ما مضى في الجاهلية فإن الله يَغْفِره . وقيل : المعنى إلا ما عَقَد عليه قبل الإِسلام ، فإنه بعد الإِسلام يبقى النكاح على صحته ، ولكن يَخْتار واحدةً منهما ويفارق الأخرى ، وكان قد تقدَّمَ قريبٌ من هذا المعنى في { مَا قَدْ سَلَفَ } الأولِ ويكون الاستثناء عليه متصلاً ، وهنا لا يتأتَّى الاتصال البتة لفساد المعنى .