الأولى : قوله تعالى : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم ؛ فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم ، كما ذكر تحريم حليلة الأب . فحرم الله سبعا من النسب وستا{[4202]} من رضاع وصهر ، وألحقت السنة المتواترة سابعة ، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ، ونص عليه الإجماع . وثبتت الرواية عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، وتلا هذه الآية . وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك ، وقال : السابعة قوله تعالى : " والمحصنات " . فالسبع المحرمات من النسب : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات ، وبنات الأخ وبنات الأخت . والسبع المحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء والربائب{[4203]} وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين ، والسابعة " ولا تنكحوا ما نكح آبائكم " . قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن ، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم ؛ وبهذا قول جمعي أئمة الفتوى بالأمصار . وقالت طائفة من السلف : الأم والربيبة سواء ، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى . قالوا : ومعنى قوله : " وأمهات نسائكم " أي اللاتي دخلتم بهن . " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " . وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا . رواه خلاس{[4204]} عن علي بن أبي طالب . وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت ، وهو قول ابن الزبير ومجاهد . قال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ، وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا ، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا : لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها . وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح . والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي . وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة ، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة . قال ابن جريج : قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها ؟ قال : لا ، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل . فقلت له : أكان ابن عباس يقرأ : " وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن " ؟ قال : لا لا . وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : " وأمهات نسائكم " قال : هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة ، وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت ، وفيه : " فقال زيد لا ، الأم مبهمة ليس فيها شرط{[4205]} وإنما الشرط في الربائب " . قال ابن المنذر : وهذا هو الصحيح ؛ لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى : " وأمهات نسائكم " . ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا ، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات ، على أن تكون " الظريفات " نعتا لنسائك ونساء زيد ، فكذلك الآية لا يجوز أن يكون " اللاتي " من نعتهما جميعا ؛ لأن الخبرين مختلفان ، ولكنه يجوز على معنى أعني . وأنشد الخليل وسيبويه :
إن بها أَكْتَلْ أو رِزَامَا *** خُوَيْرَبَيْنِ ينقفان الهَامَا{[4206]}
خويربين يعني لصين ، بمعنى أعني . وينقفان : يكسران ، نقفت رأسه كسرته . وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت ) أخرجه{[4207]} في الصحيحين .
الثانية : وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان ، والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا ، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون ، لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به .
الثالثة : قوله تعالى : " أمهاتكم " تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه ؛ ولهذا يسميه أهل العلم المبهم ، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته ، وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات . والأمهات جمع أمهة ؛ يقال : أم وأمهة بمعنى واحد ، وجاء القرآن بهما . وقد تقدم في الفاتحة{[4208]} بيانه . وقيل : إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين ، فسقطت وعادت في الجمع . قال الشاعر :
أمَّهَتي خندفٌ والدوس{[4209]} أبي
وقيل : أصل الأم أمة ، وأنشدوا :
تقبلتها عن أُمَّةٍ لك طالما *** تثوب إليها في النوائب أجمعا
ويكون جمعها أمات . قال الراعي :
كانت نجائب مُنْذِرٍ ومُحَرِّقٍ *** أمَّاتِهنَّ وطَرْقُهُنَّ فَحِيلاَ
فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة ، فيدخل في ذلك الأم دِنْيَةً{[4210]} ، وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون . والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة ، وإن شئت قلت : كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات ، فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن . والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما والبنات جمع بنت ، والأصل بنية ، والمستعمل ابنة وبنت . قال الفراء : كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء ، وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو ، فإن أصل أخت أخوة ، والجمع أخوات . والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما . وإن شئت قلت : كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك . وقد تكون العمة من جهة الأم ، وهي أخت أب أمك . والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما . وإن شئت قلت : كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك . وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك . وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة ، وكذلك بنت الأخت . فهذه السبع المحرمات من النسب . وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس - بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة .
الرابعة : قوله تعالى : " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " وهي في التحريم مثل من ذكرنا ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) . وقرأ عبدالله " وأمهاتكم اللائي " بغير تاء ، كقوله تعالى : " واللائي يئسن من المحيض " {[4211]} [ الطلاق : 4 ] قال الشاعر :
من اللاء لم يحجُجْنَ يبغين حسبة{[4212]} *** ولكن ليقتلن البريء المُغَفَّلاَ
" أرضعنكم " فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه ، وبنتها لأنها أخته ، وأختها لأنها خالته ، وأمها لأنها جدته ، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته ، وأخته لأنها عمته ، وأمه لأنها جدته ، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته .
الخامسة : قال أبو نعيم عبيدالله بن هشام الحلبي : سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة ؟ قال : نعم . قال أبو نعيم : وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها . ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما ؟ قال : يفرق بينهما ، وما أخذت من شيء له فهو لها ، وما بقي عليه فلا شيء عليه . ثم قال مالك : إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنها امرأة ضعيفة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أليس يقال إن فلانا تزوج أخته ) ؟
السادسة : التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين ، كما تقدم في " البقرة " {[4213]} . ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة . واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين : أحدهما خمس رضعات ؛ لحديث عائشة قالت : كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما{[4214]} يقرأ من القرآن . موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس ، فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس . ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس ؛ لأنه لا ينسخ بهما . وفي حديث سهلة{[4215]} ( أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن ) . الشرط الثاني : أن يكون في الحولين ، فإن كان خارجا عنهما لم يحرم ؛ لقوله تعالى : " حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " {[4216]} [ البقرة : 233 ] . وليس بعد التمام والكمال شيء . واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر . ومالك الشهر ونحوه . وقال زفر : ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين . وقال الأوزاعي : إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع . وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم ، وهو قول عائشة رضي الله عنها ، وروي عن أبي موسى الأشعري ، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك ، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال : قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها ، فجعل يمصه ويمجه ، فدخل في بطنه جرعة منه ؛ فسأل أبا موسى فقال : بانت منك ، وأت ابن مسعود فأخبره ، ففعل ، فأقبل بالأعرابي إلى أبي موسى الأشعري وقال : أرضيعا ترى هذا الأشمط{[4217]} ! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم . فقال الأشعري : لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم . فقوله : " لا تسألوني " يدل على أنه رجع عن ذلك . واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل : ( أرضعيه ) خرجه الموطأ وغيره . وشذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات ؛ تمسكا بأنه كان فيما أنزل : عشر رضعات . وكأنهم لم يبلغهم الناسخ . وقال داود : لا يحرم إلا بثلاث رضعات ، واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تحرم الإملاجة والإملاجتان ){[4218]} . خرجه مسلم . وهو مروى عن عائشة وابن الزبير ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ، وهو تمسك بدليل الخطاب ، وهو مختلف فيه . وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا ، متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع . وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر ؛ بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر . وقال الليث بن سعد : وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم . قال أبو عمر . لم يقف الليث على الخلاف في ذلك . قلت : وأنص ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحرم المصة ولا المصتان ) أخرجه مسلم في صحيحه . وهو يفسر معنى قوله تعالى : " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر ؛ غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع ؛ لقوله : " عشر رضعات معلومات . وخمس رضعات معلومات " . فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف . ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم . والله أعلم .
وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت ؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرة يرويه عن عائشة ، ومرة يرويه عن أبيه ، ومثل هذا الاضطراب يسقطه . وروي عن عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات . وروي عنها أنها أمرت أختها " أم كلثوم " أن ترضع سالم بن عبدالله عشر رضعات . وروي عن حفصة مثله ، وروي عنها ثلاث ، وروي عنها خمس ، كما قال الشافعي رضي الله عنه ، وحكي عن إسحاق .
السابعة : قوله تعالى : " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " استدل به من نفى لبن الفحل ، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبدالرحمن ، وقالوا : لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل . وقال الجمهور : قوله تعالى : " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " يدل على أن الفحل أب ؛ لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده . وهذا ضعيف ؛ فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا ، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل ، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه ، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما ؛ ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن ، وإنما اللبن لها ، فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) يقتضي التحريم من الرضاع ، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها . نعم ، الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها ، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب . قالت : فأبيت أن آذن له ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال : ( ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك ) . وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها ؛ وهذا أيضا خبر واحد . ويحتمل أن يكون " أفلح " مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال : ( ليلج عليك فإنه عمك ) . وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله ، ولكن العمل عليه ، والاحتياط في التحريم أولى ، مع أن قوله تعالى : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " يقوي قول المخالف .
الثامنة : قوله تعالى : " وأخواتكم من الرضاعة " وهي الأخت لأب وأم ، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك ، سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك . والأخت من الأب دون الأم ، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك . والأخت من الأم دون الأب ، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر . ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى : " وأمهات نسائكم " والصهر أربع : أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن . فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم .
التاسعة : قوله تعالى : " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " هذا مستقل بنفسه . ولا يرجع قوله : " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " إلى الفريق الأول ، بل هو راجع إلى الربائب ، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم . والربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره . سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة ، فعيلة بمعنى مفعولة . واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة في حجره . وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها ، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها ، واحتجوا بالآية فقالوا : حرم الله تعالى الربيبة بشرطين : أحدهما : أن تكون في حجر المتزوج بأمها . والثاني : الدخول بالأم ، فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم . واحتجوا بقوله عليه السلام : ( لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ) فشرط الحجر . ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك . قال ابن المنذر والطحاوي : أما الحديث عن علي فلا يثبت ؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي ، وإبراهيم هذا لا يعرف ، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف . قال أبو عبيد : ويدفعه قوله : ( فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) فعم . ولم يقل : اللائي في حجري ، ولكنه سوى بينهن في التحريم . قال الطحاوي : وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب ، لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك .
العاشرة : قوله تعالى : " فإن لم تكونوا دخلتم بهن " يعني بالأمهات . " فلا جناح عليكم " يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم . وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها . واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب ، فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع ؛ وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما . واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوه حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن ، وهو أحد قولي الشافعي . واختلفوا في النظر ، فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها . وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة . وقال الثوري : [ يحرم ]{[4219]} إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها ، ولم يذكر الشهوة . وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ، وهو قول الشافعي . والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح ؛ إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ . وقد يحتمل أن يقال : إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع ، فإن النظر اجتماع ولقاء ، وفيه بين المحبين استمتاع ، وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا :
أليس الليل يجمع أم عمرو *** وإيانا فذاكَ بنا تَدَانِ
نعم ، وترى الهلال كما أراه *** ويعلوها النهار كما علاني
فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة{[4220]} واللذة .
الحادية عشرة : قوله تعالى : " وحلائل أبنائكم " الحلائل جمع حليلة ، وهي الزوجة . سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل . فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال ؛ فهي حليلة بمعنى محللة . وقيل : لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه .
الثانية عشرة : أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء ، كان مع العقد وطء أو لم يكن . لقوله تعالى : " ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء " وقوله تعالى : " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " ، فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح ؛ لأن النكاح الفاسد لا يخلو : إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه . فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه ، وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح ؛ لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ . والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم . والله أعلم .
قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من علماء{[4221]} الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده .
الثالثة عشرة : على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه ؛ فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه ، لا أعلمهم يختلفون فيه ؛ فوجب تحريم ذلك تسليما لهم . ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم . قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه . وقال يعقوب ومحمد : إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه ، وتحرم عليه أمها وابنتها . وقال مالك : إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها ، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه . وقال الشافعي : إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس ، وهو قول الأوزاعي :
الرابعة عشرة : واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا ، فقال أكثر أهل العلم : لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحد ، ثم يدخل{[4222]} بامرأته . ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك . وقالت طائفة : تحرم عليه . روي هذا القول عن عمران بن حصين ، وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وروي عن مالك ، وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال ، وهو قول أهل العراق . والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز : أن الزنى لا حكم له ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال : " وأمهات نسائكم " وليست التي زنى بها من أمهات نسائه ، ولا ابنتها من ربائبه . وهو قول الشافعي وأبي ثور ؛ لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحقوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز . وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال : ( لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح ) . ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج{[4223]} وقوله : ( يا غلام من أبوك ) قال : فلان الراعي . فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال ، فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده ، وهي رواية ابن القاسم في المدونة . ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها ، وهو المشهور . قال عليه السلام : ( لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ) ولم يفصل بين الحلال والحرام . وقال عليه السلام : ( لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها ) . قال ابن خويز منداد : ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة . وقال عبدالملك الماجشون : إنها تحل ، وهو الصحيح لقوله تعالى : " وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا " [ الفرقان : 54 ] يعني بالنكاح الصحيح ، على ما يأتي في " الفرقان " {[4224]} بيانه . ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني ، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته ، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فثبتت البنوة وأحكامها . فإن قيل : فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك ، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة ؟ فالجواب : إن ذلك موجب ما ذكرناه . وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه ، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل ، والله أعلم .
الخامسة عشرة : واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط . فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يحرم النكاح باللواط . وقال الثوري : إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه ، وهو قول أحمد بن حنبل . قال : إذا تلوط بابن امرأته{[4225]} أو أبيها أو أخيها حرمت عله امرأته . وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها ؛ لأنها بنت من قد دخل به . وهو قول أحمد بن حنبل .
السادسة عشرة : قوله تعالى : " الذين من أصلابكم " تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب . ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون : تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه ، على ما يأتي بيانه في " الأحزاب " {[4226]} . وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام : ( يحرم الرضاع ما يحرم من النسب ) .
السابعة عشرة : قوله تعالى : " وأن تجمعوا بين الأختين " موضع " أن " رفع على العطف على " حرمت عليكم أمهاتكم " . والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين . وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية ، وقوله عليه السلام : ( لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن ) . واختلفوا في الأختين بملك اليمين ، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء ، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع ، وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة . واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها{[4227]} ؛ فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها . وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت . قال أبو عمر : من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه ، ومن جعله كالوطء لم يجزه . وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة ؛ لقول الله تعالى : " وأن تجمعوا بين الأختين " يعني الزوجتين بعقد النكاح . فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله{[4228]} . والله أعلم .
الثامنة عشرة : شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما يجوز الجمع بينهما في الملك . واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين : " حرمتهما آية وأحلتهما آية " . ذكره عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال : لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية . فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر : أحسبه قال علي - قال : وما سألت عنه عثمان ؟ فأخبره بما سأل وبما أفتاه . فقال له : لكني أنهاك ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا . وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان . والآية التي أحلتهما قوله تعالى : " وأحل لكم ما وراء ذلكم " . ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول ؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل . وممن قال ذلك من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان{[4229]} وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير ، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله ، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل . وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكا فيمن كرهه . ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وابنتها . قال ابن عطية : ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما ؛ فلم يلزمه حدا . قال أبو عمر : ( أما قول علي لجعلته نكالا ) ولم يقل لحددته حد الزاني ؛ فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان{[4230]} بإجماع وإن كان مخطئا ، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله . وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين : ( أحلتهما آية وحرمتهما آية ) معلوم محفوظ ، فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية ؟ وبالله التوفيق .
التاسعة عشرة : واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ؛ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوجها . قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة ، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها ، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية . وفيه قول ثالث : وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما . هكذا قال الحكم وحماد ، وروي معنى ذلك عن النخعي . ومذهب مالك : إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته . فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك : إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل . فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ؛ ولم يوكل ذلك إلى أمانته ؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة . ومذهب الكوفيين في هذا الباب : الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى ؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى ، وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة . فأما بعد انقضاء العدة فلا ، حتى يملك فرج التي يطأ غيره ؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه . قالوا : لأن الملك الذي منع وطء الجارية{[4231]} في الابتداء موجود ، فلا فرق بين عودتها إليه وببن بقائها في ملكه . وقول مالك حسن ؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال ، وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال . ولم يختلفوا في العتق ؛ لأنه لا يتصرف فيه بحال ؛ وأما الكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه . فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح . الثالث : في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح ؛ إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء . وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح ، كما تقدم عن الشافعي . وفي الباب بعينه قول آخر : أن النكاح لا ينعقد ، وهو معنى قول الأوزاعي . وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة .
الموفية عشرين : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة . واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ؛ فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق ؛ وروي عن علي وزيد بن ثابت ، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي ، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : له أن ينكح أختها وأربعا{[4232]} سواها ؛ وروي عن عطاء ، وهي أثبت الروايتين عنه ، وروي عن زيد بن ثابت أيضا ؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد . قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : " إلا ما قد سلف " يحتمل أن يكون معناه معنى قوله : " إلا ما قد سلف " في قوله : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " . ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين ؛ على ما قاله مالك والشافعي ، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع ، وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين . وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد . وروى هشام بن عبدالله عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين ؛ إحداهما نكاح امرأة الأب ، والثانية ، الجمع بين الأختين . ألا ترى أنه قال : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " . " وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " ولم يذكر في سائر المحرمات " إلا ما قد سلف " . والله أعلم .