قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } أي : نكاحهنّ ، وقد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحلّ ، وما يحرم من النساء ، فحرّم سبعاً من النسب ، وستاً من الرضاع ، والصهر ، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، ووقع عليه الإجماع . فالسبع المحرمات من النسب الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت . والمحرمات بالصهر ، والرضاع : الأمهات من الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء ، والربائب ، وحلائل الأبناء ، والجمع بين الأختين ، فهؤلاء ست ، والسابعة منكوحات الآباء ، والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها . قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح واحدة منهنّ بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ ، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم . وقال بعض السلف : الأم ، والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى . قالوا : ومعنى قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } أي : اللاتي دخلتم بهن ، وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات ، والربائب جميعاً ، رواه خلاس عن عليّ بن أبي طالب . وروى عن ابن عباس ، وجابر ، وزيد بن ثابت ، وابن الزبير ، ومجاهد ، قال القرطبي : ورواية خلاس عن عليّ لا تقوم بها حجة ، ولا تصح روايته عند أهل الحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة . وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات ، والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب ، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحداً ، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك ، وهويت نساء زيد الظريفات ، على أن يكون الظريف نعتاً للجميع ، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتاً لهما جميعاً ؛ لأن الخبرين مختلفان .
قال ابن المنذر : والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } . ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا نكح الرجل المرأة ، فلا يحلّ له أن يتزوج أمها دخل بالإبنة أو لم يدخل ، وإذا تزوج الأم ، فلم يدخل بها ، ثم طلقها ، فإن شاء تزوج الإبنة » قال ابن كثير في تفسيره مستدلاً للجمهور : وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظراً ، فذكر هذا الحديث ، ثم قال ، وهذا الخبر ، وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره ، قال في الكشاف : وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى انتهى . ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم .
واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهنّ ، وجداتهنّ ، وأمّ الأب ، وجدّاته ، وإن علون ؛ لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته ، وإن سفل . ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد ، وإن سفلن ، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين ، أو لأحدهما ، والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك ، أو جدّك في أصليه ، أو أحدهما . وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأمّ . والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما ، وقد تكون الخالة من جهة الأب ، وهي أخت أم أبيك ، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت ، وكذلك بنت الأخت .
قوله { وأمهاتكم اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعاً ، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة ، والبحث عن تقرير ذلك ، وتحقيقه يطول ، وقد استوفيناه في مصنفاتنا ، وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع . قوله : { وأخواتكم منَ الرضاعة } الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك ، أو مع من قبلك ، أو بعدك من الإخوة والأخوات ، والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر . قوله : { وأمهات نِسَائِكُمْ } قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول ، وعدمه . والمحرمات بالمصاهرة أربع : أمّ المرأة ، وابنتها ، وزوجة الأب ، وزوجة الابن .
قوله : { وَرَبَائِبُكُمُ } الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره ؛ سميت بذلك ؛ لأنه يربيها في حجره ، فهي : مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة . قال القرطبي : واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة في حجره ، وشذّ بعض المتقدمين ، وأهل الظاهر ، فقالوا : لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج ، فلو كانت في بلد آخر ، وفارق الأم ، فله أن يتزوج بها ؛ وقد روي ذلك عن عليّ . قال ابن المنذر ، والطحاوي : لم يثبت ذلك عن عليّ ؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، عن عليّ ، وإبراهيم هذا لا يعرف . وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي : وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم . والحجور جمع حجر . والراجح أنهنّ في حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن ، كما هو الغالب . وقيل المراد بالحجور : البيوت ، أي : في بيوتكم ، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة . قوله : { فَإِن لمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : في نكاح الربائب ، وهو : تصريح بما دلّ عليه مفهوم ما قبله .
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب : فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع ، وهو قول طاوس ، وعمرو بن دينار ، وغيرهما . وقال مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والليث ، والزيدية : إن الزوج إذا لمس الأمّ لشهوة حرّمت عليه ابنتها ، وهو أحد قولي الشافعي . قال ابن جرير الطبري : وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها عليه وهو أحد قولي الشافعي . قال ابن جرير الطبري : وفي إجماع الجميع أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ، ومباشرتها ، وقبل النظر إلى فرجها بالشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع . انتهى . وهكذا حكى الإجماع القرطبي ، فقال : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها ، أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاح ابنتها . واختلفوا في النظر ، فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها ، أو صدرها ، أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها ، وابنتها . وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة ، وكذا قال الثوري ، ولم يذكر الشهوة . وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ، وهو قول الشافعي . والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو : النظر في معنى الدخول شرعاً أو لغة ، فإن كان خاصاً بالجماع ، فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس ، أو نظر ، أو غيرهما ، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك . وأما الربيبة في ملك اليمين ، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك . وقال ابن عباس : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، ولم أكن لأفعله . وقال ابن عبد البر : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة ، وابنتها من ملك اليمين ؛ لأن الله حرّم ذلك في النكاح قال : { وأمهات نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ من نسَائِكُمُ } وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر ، وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ، ولا من تبعهم . انتهى .
قوله : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } الحلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، سميت بذلك ؛ لأنها تحلّ مع الزوج حيث حلّ ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وذهب الزجاج ، وقوم إلى أنها من لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة . وقيل : لأن كل واحد منهما يحلّ إزار صاحبه . وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء ، أو لم يكن ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ منَ النساء } وقوله : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } .
واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسداً هل يقتضي التحريم أم لا ؟ كما هو مبين في كتب الفروع . قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطىء امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه ، وابنه ، وعلى أجداده .
وأجمع العلماء : على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه ، فإذا اشترى جارية فلمس ، أو قبل حرمت على أبيه ، وابنه لا أعلمهم يختلفون فيه ، فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم . ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه .
قوله : { الذين مِنْ أصلابكم } وصف للأبناء ، أي : دون من تبنيتم من أولاد غيركم ، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، ومنه قوله تعالى { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ منْهَا وَطَراً زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] ومنه قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] ومنه : { ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] وأما زوجة الابن من الرضاع ، فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه ، وقد قيل : إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب . ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ولا خلاف أن أولاد الأولاد ، وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم .
وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا ؟ فقال أكثر أهل العلم : إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها ، أو بابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحدّ ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم من زنى بها ، وبابنتها . وقالت طائفة من أهل العلم : إن الزنا يقتضي التحريم . حكي ذلك عن عمران بن حصين ، والشعبي ، وعطاء ، والحسن ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وحكي ذلك عن مالك ، والصحيح عنه كقول الجمهور . احتج الجمهور بقوله تعالى : { وأمهات نِسَائِكُمْ } وبقوله : { وحلائل أَبْنَائِكُمُ } والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ، ولا من حلائل أبنائهم .
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة ، فأراد أن يتزوّجها ، أو ابنتها ، فقال : " لا يحرّم الحرام الحلال " واحتج المحرّمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال : يا غلام من أبوك ؟ فقال : فلان الراعي ، فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا ، وهذا احتجاج ساقط ، واحتجوا أيضاً بقوله : " لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة ، وابنتها " ولم يفصل بين الحلال والحرام . ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرّم الحلال .
واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا ؟ فقال الثوري : إذا لاط بالصبيّ حرمت عليه أمه ، وهو : قول أحمد بن حنبل قال : إذا تلوّط بابن امرأته ، أو أبيها ، أو أخيها حرمت عليه امرأته . وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها ؛ لأنها بنت من قد دخل به . ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف ، والسقوط النازل ، عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم .
قوله : { وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأختين } أي : وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين ، فهو في محل رفع عطفاً على المحرمات السابقة ، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح ، والوطء بملك اليمين . وقيل : إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين ، وأما في الوطء بالملك ، فلا حق بالنكاح ، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح .
واختلفوا في الأختين بملك اليمين ، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك ، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط . وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك ، وسيأتي بيان ذلك . واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك . فقال الأوزاعي : إذا وطىء جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوّج أختها . وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت . وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما يجوز الجمع بينهما في الملك . قال ابن عبد البرّ بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ، ولكنه اختلف عليهم ، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ، ولا بالعراق ، ولا ما وراءها من المشرق ، ولا بالشام ، ولا المغرب إلا من شذّ ، عن جماعتهم باتباع الظاهر ، ونفي القياس . وقد ترك من تعمد ذلك . وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحلّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحلّ ذلك في النكاح . وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخر الآية ، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ سواء . فكذلك يجب أن يكون قياساً ونظراً الجمع بين الأختين ، وأمهات النساء ، والربائب ، وكذا هو عند جمهورهم ، وهي : الحجة المحجوج بها من خالفها ، وشذ عنها ، والله المحمود . انتهى .
وأقول : ها هنا إشكال ، وهو أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط ، وعلى الوطء فقط ، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً ، أو كونهما حقيقتين معروف ، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية ، وهي قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } إلى آخرها ، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم يكن في قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأختين } دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك ، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخره ، يستوي فيه الحرائر والإماء والعقد ، والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف ، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع ، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض ، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها ، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح ، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ، ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور ، فالحق لا يعرف بالرجال ، فإن جاء به خالصاً عن شوب الكدر فبها ونعمت ، وإلا كان الأصل الحل ، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعاً أعني العقد والوطء ؛ لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو ممنوع ، أو من باب الجمع بين معنى المشترك ، وفيه الخلاف المعروف في الأصول فتدبر هذا .
وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ، ثم أراد أن يطأ أختها بالملك ، فقال عليّ ، وابن عمر ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوّجها . قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة ، وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه ولا يقربها ، ثم يمسك عنهما حتى تستبرئ المحرمة ، ثم يغشى الثانية . وفيه قول ثالث ، وهو أنه لا يقرب واحدة منهما ، هكذا قال الحكم ، وحماد . وروي معنى ذلك عن النخعي . وقال مالك : إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته ، فإن أراد وطء الأخرى ، فيلزمه أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ، ثم وثب على الأخرى دون أن يحرّم الأولى وقف عنهما ، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرّم الأخرى ، ولم يوكل ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم . قال القرطبي : وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدّة المطلقة .
واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ؛ فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التى طلق . روي ذلك عن عليّ ، وزيد بن ثابت ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وأصحاب الرأي .
وقالت طائفة : له أن ينكح أختها ، وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع ، وطلق واحدة منهنّ طلاقاً بائناً . روي ذلك عن سعيد بن المسيب ، والحسن ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأبي عبيد . قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك . وهو أيضاً إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت ، وعطاء . قوله : { إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدّم من قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ منَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } ويحتمل معنى آخر ، وهو جواز ما سلف وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين . والصواب الاحتمال الأوّل .