فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّـٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّـٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَـٰٓئِبُكُمُ ٱلَّـٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّـٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَـٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (23)

{ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيم ( 23 ) }

قد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحل وما يحرم من النساء ، فحرم سبعا من النسب وستا من الرضاع والصهر ، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، ووقع عليه الإجماع .

والسبع المحرمات من النسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت .

والمحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين ، فهؤلاء ست ، والسابعة منكوحات الآباء والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها .

قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح واحدة منهن بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم ، وقال بعض السلف الأم والربيبة سواء لا تحرم واحدة منهما إلا بالدخول بالأخرى .

قالوا ومعنى قوله وأمهات نسائكم أي اللاتي دخلتم بهن وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا ، رواه خلاس عن علي بن أبي طالب ، وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد .

قال القرطبي : ورواية خلاس عن علي لا تقوم به الحجة ولا تصح روايته عند أهل الحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب أن يكون اللاتي دخلتم بهن نعتا لهما جميعا لأن الخبرين مختلفان .

قال ابن المنذر : والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله وأمهات نسائكم .

ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أم لم يدخل ، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة ) {[438]} .

قال ابن كثير في تفسيره مستدلا للجمهور : وقد روي في ذلك خبر ، غير أن في إسناده نظرا فذكر هذا الحديث ، ثم قال وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فإن الإجماع حجة على صحة القول به يغني على الاستشهاد على صحته بغيره{[439]} .

وقال في الكشاف : وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى انتهى ، ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم .

واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهن وجداتهن وأم الأب وجداته وإن علون لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدنه وإن سفل ، ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد وإن سفلن ، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين أو لأحدهما والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو أحدهما ، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم .

والخالة اسم لكل أم أنثى شاركت أمك في أصليها أو إحداهما وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك ، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت ، وكذلك بنت الأخت وأمهات الرضاعة مطلق مقيد بما ورد في السنة ، من كون الرضاعة في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة .

ظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعا ، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة عن جماعة من الصحابة وتقرير ذلك وتحقيقه يطول ، وقد استوفاه الشوكاني في مصنفاته وقرر ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع .

والأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سوء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات ، ويلحق بذلك بالسنة البنات منها وهن من أرضعتهن موطوآته والعمات والخالات وبنات الأخت منها لحديث : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) رواه البخاري ومسلم{[440]} .

والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر وأمهات النساء من نسب أو رضاع قد تقدم الكلام عليها على اعتبار الدخول وعدمه .

والربيبة بنت امرأة الرجل من غيره سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة .

قال القرطبي : واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حجره ، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج ، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها ، وقد روى ذلك عن علي .

قال ابن المنذر والطحاوي لم يثبت ذلك عن علي لأن رواية إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي ، وإبراهيم هذا لا يعرف ، وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي : وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم .

والحجور جمع حجر بفتح الحاء وكسرها مقدم الثوب ، والمراد لازم الكون في الحجور وهو الكون في تربيتهم ، والمراد أنهن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهم كما هو الغالب ، وقيل المراد بالحجور البيوت أي في بيوتكم ، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة وقيل هي صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها .

والباء في دخلتم بهن للتعدية أي دخلتم الخلوة بهن ، والمراد لازمه العادي وهو الوطء أي جامعتموهن ، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم في نكاح الربائب إذا فارقتموهن أو متن ، وهو تصريح بما دل عليه مفهوم ما قبله .

وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب ، فروى عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما ، وقال مالك الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث : إن الزوج إذا لمس الأم بشهوة حرمت عليه ابنتها ، وهو أحد قول الشافعي ، قال أبو السعود معنى الدخول بهن إدخالهن الستر والباء للتعدية وهي كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب ، وفي حكمه اللمس ونظائره انتهى ورجحه الخفاجي .

ورد على البيضاوي في قوله ردا على أبي حنيفة تصريح بعد إشعار دفعا للقياس بأن تصريح الآية غير مراد قطعا بل اشتهر من معناها الكنائي .

وقال ابن جرير الطبري : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع انتهى .

وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها ، واختلفوا في النظر فقال الكوفيون إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة ، وقال ابن أبي ليلي : لا تحرم بالنظر حتى يلمس وهو قول الشافعي .

والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة فإنه كان خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما ، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك .

وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر ابن الخطاب أنه كره ذلك وقال ابن عباس : أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله ، وقال بن عبد البر لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح قال { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روى عن عمر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى .

والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة سميت بذلك لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محللة وقيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه .

وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء أم لم يكن لقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح أبائكم من النساء } وقوله { وحلائل أبنائكم } واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسدا هل يقتضي التحريم أم لا كما هو مبين في كتب الفروع .

قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذ وطء امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده ، وأجمع العلماء على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه ، فإذا اشترى جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه ، لا أعلمهم يختلفون فيه فوجب تحريم ذلك تسليما لهم ، ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم ، قال : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه .

وقوله { الذين من أصلابكم } وصف للأبناء أي دون من تبنيتم من أولاد غيركم كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، ومنه قوله تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } ومنه قوله تعالى { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ومنه { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } فلكم نكاح حلائلهم .

وأما زوجة الابن من الرضاع فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه ، وقد قيل أنها إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب ، ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) {[441]} وإن كان مقتضى مفهوم الآية تحليلهن ، ولا خلاف في أن أولاد الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم .

وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا ، فقال أكثر أهل العلم إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو ابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحد ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوج بأم من زنى بها وبابنتها .

وقال طائفة من أهل العلم : إن الزنا يقتضي التحريم ، وحكى ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن والثوري وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي ، وحكى ذلك عن مالك والصحيح عنه كقول الجمهور ، احتج الجمهور بقوله تعالى { وأمهات نسائكم } وبقوله { وحلائل أبنائكم } والموطوأة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ولا من حلائل أبنائهم .

وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال : لا يحرم الحرام الحلال .

واحتج المحرمون بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال : يا غلام من أبوك ؟ فقال فلان الراعي فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا . وهكذا احتجاج ساقط ، واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الله إلى رجل نظر في فرج امرأة وابنتها ) ولم يفصل بين الحلال والحرام ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيد بما ورد من الأدلة الدالة على أن الحرام لا يحرم الحلال .

ثم اختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا ؟ فقال الثوري إذا لاط بالصبي حرمت عليه أمه وهو قول أحمد بن حنبل قال إذا تلوط بابن امرأته أو ابنها أو أخيها حرمت عليه امرأته ، وقال الأوزاغي إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به .

ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء الوطء للتحريم .

والجمع بين الأختين من نسب أو رضاع يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين ، وقيل إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين ، وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح ، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد النكاح ، واختلفوا في الأختين بملك اليمين فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك ، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط . وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك وسيأتي بيان ذلك .

واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك فقال الأوزاعي : إذا وطء جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها . وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت .

وقد ذهب الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك ، قال بن عبد البر بعد أن ذكر ما روى عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك ، وقد روى مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءها من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا من شذ عن جماعتهم بإتباع الظاهر ونفي القياس ، وقد ترك من تعمد ذلك ، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح .

وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء ، فكذلك يجب أن يكون قياسا ونظرا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب ، وكذلك هو عند جمهورهم وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها والله المحمود انتهى .

وأقول هاهنا إشكال وهو أنه قد تقرر أن النكاح يقال على العقد فقط وعلى الوطء فقط ، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازا وكونهما حقيقتين معروف ، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في قوله { حرمت عليكم أمهاتكم } الخ على أن المراد تحريم العقد عليهن لم يكن في قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله { حرمت عليكم أمهاتكم } إلى آخره تستوي فيه الحرائر والإماء والعقد والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع ، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض .

وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك الإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أول الآية إلى آخرها ، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح ، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ، ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور ، فالحق لا يعرف بالرجال فإن جاء به خالصا عن شوب الكدر فيها ونعمت وإلا كان الأصل الحل .

ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعا أعني العقد والوطء ، لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع ، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك وفيه الخلاف المعروف في الأصول ، فتدبر هذا .

وقال السيوطي : ويلحق بهما الأذى بالأختين بالسنة الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها ، ويجوز نكاح كل واحدة على الإنفراد وملكهما معا ويطأ واحدة انتهى .

قلت : قد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك أيضا فقال علي وابن عمر والحسن البصري ، والأوزاغي والشافعي وأحمد وإسحق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق أو بأن يزوجها .

قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ثم يمسك عنهما حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية ، وفيه قول ثالث وهو أنه لا يقرب واحدة منهما قاله الحكم وحماد ، وروي معنى ذلك عن النخعي .

وقال مالك إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو كتابة أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ، ولم يوكل ذلك إلى أمانته لأنه متهم{[442]} .

قال القرطبي : وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق امرأته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدة المطلقة ، واختلفوا إذا طلقها لا يملك رجعتها فقالت طائفة ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلقها روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي .

وقالت طائفة : له أن ينكح أختها ، وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهن طلاقا بائنا ، وروي ذلك عن سعيد ابن المسيب والحسن والقاسم وعروة وبن الزبير وابن أبي ليلي والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد ، قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك ، وهو أيضا إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء .

وقوله { إلا ما قد سلف } يحتمل أن يكون معناه ما تقدم من قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } ويحتمل معنى آخر وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين ، والصواب الاحتمال الأول { إن الله كان غفورا } لما سلف منكم قبل النهي { رحيما } بكم في ذلك .


[438]:الترمذي كتاب النكاح باب 25.
[439]:ابن كثير 1/471.
[440]:مسلم 1444، البخاري1285.
[441]:مسلم 1444- البخاري 1285- الدارقطني كتاب النكاح 3/268.
[442]:وقد روى فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "طلق إحداهما" رواه 4/232 وأبو داود 3/185 والترمذي 3/436 وابن ماجه 1/627. وفي روايته "اختر أيتهما شئت".