قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } .
اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان : سبعة منهن من جهة النسب ، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت .
وسبعة أخرى لا من جهة النسب : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء ، وأزواج الأبناء والآباء ، إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ههنا ، وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة ، والجمع بين الأختين . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال : لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات ، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان ، وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال ، وذلك الفعل غير مذكور في الآية ، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات ، أولى من بعض ، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه .
والجواب عنه من وجهين : الأول : أن تقديم قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم } يدل على أن المراد من قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } تحريم نكاحهن . الثاني : أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن ، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان ، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف ، فإذا قيل : حرمت عليكم الميتة والدم ، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما ، وإذا قيل : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن ، ولما قال عليه الصلاة والسلام : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى معان ثلاث » فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه . وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية ، فكانت في غاية الركاكة ، والله أعلم .
بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى : أحدها : أن قوله : { حرمت عليكم } مذكور على ما لم يسم فاعله ، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى ، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر ، ولا سبيل إليه إلا بالإجماع ، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا ، بل لا بد معها من الإجماع على هذه المقدمة ، وثانيها : أن قوله : { حرمت عليكم } ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد ، فإن القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المؤبد ، وإلى المؤقت ، كأنه تعالى تارة قال : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى الوقت الفلاني فقط ، وأخرى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا ، وإذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين ، لم يكن نصا في التأييد ، فإذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية ، بل من دلالة منفصلة ، وثالثها : أن قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين ، فإثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل ، ورابعها : أن قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي ، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل ، وخامسها : أن ظاهر قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع ، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة ، وبنته خاصة ، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر ، وسادسها : أن قوله : { حرمت } يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله : { حرمت } تحريما لما هو في نفسه حرام ، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال ، فثبت أن المراد من قوله : { حرمت } ليس تجديد التحريم حتى يلزم الإشكال المذكور ، بل المراد الإخبار عن حصول التحريم ، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب ، والله أعلم .
المسألة الثانية : اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الإلهية ، بل إن زرداشت رسول المجوس قال بحله ، إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا . أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام ، وإنما حكم الله بإباحة ذلك على سبيل الضرورة ، ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك ، وقال : أنه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد ، لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة ، فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط ، وذلك بالإجماع باطل . وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم : أن الوطء إذلال وإهانة ، فإن الإنسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي ، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره ، وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الإنعام ، فوجب صونها عن هذا الإذلال ، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه ، قال عليه الصلاة والسلام : «فاطمة بضعة مني » فيجب صونها عن هذا الإذلال ، لأن المباشرة معها تجري مجرى الإذلال ، وكذا القول في البقية والله أعلم . ولنشرع الآن في التفاصيل فنقول :
النوع الأول : من المحرمات : الأمهات ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر :
أمهتي خندف والياس أبي *** . . .
وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي :
كانت نجائب منذر ومحرق *** أماتهن وطرقهن فحيلا
المسألة الثانية : كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات ، بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك . ثم ههنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية ، فأما في الجدات فأما أن يكون حقيقة أو مجازا ، فإن كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات ، فإما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا ، فإن كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بإزاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات ، وأما إن كان لفظ الأم مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات ، فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا ؟ فمن جوزه حمل اللفظ ههنا على الكل ، وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه ، ومن قال : لا يجوز ، فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع : أحدهما : أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به ههنا الأم الأصلية ، فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه ، وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص ، بل من الإجماع . والثاني : أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين ، يريد في كل مرة مفهوما آخر ، أما إذا قلنا : لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات ، فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا ، وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية ، وفي الجدات .
المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله : إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد ، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه . حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة ، فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } إنما قلنا : إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال : { حرمت عليكم أمهاتكم } وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية : تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول : الموجود ليس إلا صيغة الإيجاب والقبول ، فلو حصل هذا الانعقاد ، فإما أن يقال : إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل ، لأن صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى ، والقبول لا يوجد إلا بعد الإيجاب ، وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال . والثاني : باطل ، لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا العقد قطعا ، ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع ، كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا ؟ فثبت أن وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة ، وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم .
النوع الثاني : من المحرمات : البنات ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات ، بإناث أو بذكور فهي بنتك ، وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا ؟ فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات .
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله : البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني . وقال أبو حنيفة : تحرم . حجة الشافعي أنها ليست بنتا له فوجب أن لا تحرم ، إنما قلنا : إنها ليست بنتا لوجوه : الأول : أن أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة ، وهي كونها مخلوقة من مائه ، أو بناء على حكم الشرع بثبوت هذا النسب ، والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا ، أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره فأتت بولد ، فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه مع أن أبا حنيفة قال : لا يثبت نسبها إلا عند الاستلحاق ، ولو كان السبب هو كون الولد متخلقا من مائه لما توقف في ثبوت هذا النسب بغير الاستلحاق ، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد ، فأبو حنيفة أثبت النسب هنا مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه ، فثبت أن القول بجعل التخليق من مائه سببا للنسب باطل طردا وعكسا على قول أبي حنيفة ، وأما إذا قلنا : النسب إنما يثبت بحكم الشرع ، فههنا أجمع المسلمون على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ، ولو انتسب إلى الزاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب ، فثبت أن انتسابها إليه غير ممكن ، لا بناء على الحقيقة ، ولا بناء على حكم الشرع .
الوجه الثاني : التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام : «الولد للفراش وللعاهر الحجر » فقوله : الولد للفراش يقتضي حصر النسب في الفراش .
الوجه الثالث : لو كانت بنتا له لأخذت الميراث لقوله تعالى : { للذكر مثل حظ الأنثيين } ولثبتت له ولاية الإجبار ، لقوله عليه السلام : «زوجوا بناتكم الأكفاء » ولوجب عليه نفقتها وحضانتها ، ولحلت الخلوة بها ، فلما لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء البنتية ، وإذا ثبت أنها ليست بنتا له وجب أن يحل التزوج بها ، لأن حرمة التزوج بها إما للبنتية ، أو لأجل أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة ، وهذا الحصر ثابت بالإجماع . والبنتية باطلة كما ذكرنا ، وحرمة المصاهرة بسبب الزنا أيضا باطلة كما تقدم شرح هذه المسألة ، فثبت أنها غير محرمة على الزاني والله أعلم .
النوع الثالث : من المحرمات : الأخوات : ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا ، والأخوات من الأب فقط ، والأخوات من الأم فقط .
النوع الرابع والخامس : العمات والخالات . قال الواحدي رحمه الله : كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك ، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك ، وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك ، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك .
النوع السادس والسابع : بنات الأخ وبنات الأخت : والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في بنات الصلب . فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالأنساب والأرحام . قال المفسرون : كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم ، فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه ، وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارئ ، فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية .
قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } .
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة ، كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله : { وأزواجه أمهاتهم } لأجل الحرمة .
المسألة الثانية : أنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات ، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أما ، والمرضعة أختا ، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا : اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة ، وهما الأمهات والبنات ، وخمس منها بطريق الأخوة ، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، ثم أنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي ، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات ، ومن قسم قرابة الأخوة الأخوات ، ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ، ثم أنه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية ، وهذا بيان لطيف .
المسألة الثالثة : أم الإنسان من الرضاع هي التي أرضعته ، وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة ، إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع ، والحال في الأب كما في الأم ، وإذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق ، وأما الأخوات فثلاثة : الأولى أختك لأبيك وأمك ، وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك ، سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك ، والثانية أختك لأبيك دون أمك ، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك ، والثالثة أختك لأمك دون أبيك ، وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر ، وإذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت .
المسألة الرابعة : قال الشافعي رحمة الله عليه : الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الرضعة الواحدة كافية ، وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة ، واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال : إنه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والإخوة بفعل الرضاع ، فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم ، ثم سأل نفسه فقال : إن قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } بمنزلة قول القائل : وأمهاتكم اللاتي أعطينكم ، وأمهاتكم اللاتي كسونكم ، وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع ، بل لو أنه تعالى قال : اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا .
وأجاب عنه بأن قال : الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة ، فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به ، بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم ، لأن اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة ، قال ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال : قال ابن الزبير : لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين ، فقال ابن عمر : قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير ، قال الله تعالى : { وأخواتكم من الرضاعة } قال : فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل .
واعلم أن هذا الجواب ركيك جدا ، أما قوله : إن اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول : وهل النزاع إلا فيه ، فإن عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات ، وعندك إنما جاء من أصل الرضاع ، وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لإثبات هذا الأصل ، فإذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط ، وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع ، فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه منه ، وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب ، فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه . ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات ، ثم إن أبا بكر الرازي أخد يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة ، ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية ، فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه .
قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : يدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب .
المسألة الثانية : مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل ، وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها ، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر ، وأظهر الروايات عن ابن عباس ، وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله : { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم } ثم ذكر شرطا وهو قوله : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا ، وحجة القول الأول أن قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط إليه ، فوجب القول ببقائه على عمومه ، وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه : الأول : وهو أن الشرط لا بد من تعليقه بشيء سبق ذكره فإذا علقناه بإحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية ، فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل ، وأنه لا يجوز . الثاني : وهو أن عموم هذه الجملة معلوم ، وعود الشرط إليه محتمل ، لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصا بالجملة الأخيرة فقط ، ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا ، والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك ، وأنه لا يجوز . الثالث : وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى ، فإما أن يكون مقصورا عليها ، وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضا ، والأول باطل ، لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا ، وذلك باطل بالإجماع ، والثاني باطل أيضا ، لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فيكون المراد بكلمة «من » ههنا التمييز ثم يقول : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فيكون المراد بكلمة «من » ههنا ابتداء الغاية كما يقول : بنات الرسول من خديجة ، فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وإنه غير جائز ، ويمكن أن يجاب عنه فيقال : إن كلمة «من » للاتصال كقوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وقال عليه الصلاة والسلام : " ما أنا من دد ولا الدد مني " ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا .
الوجه الرابع : في الدلالة على ما قلناه : ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها ، دخل بالبنت أو لم يدخل ، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت " وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث . وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة ، فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه ، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة . وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال : الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فإن طلقها قبل الدخول تزوج أمها ، وإن ماتت لم يتزوج أمها ، واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم ، لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ، ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة ، وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة ، لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم .
النوع الحادي عشر : من المحرمات .
قوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } .
المسألة الأولى : الربائب : جمع ربيبة ، وهي بنت امرأة الرجل من غيره ، ومعناها مربوبة ، لأن الرجل هو يربها يقال : ربيت فلانا أربه : وربيبته أربيه بمعنى واحد ، والحجور جمع حجر ، وفيه لغتان قال ابن السكيت : حجر الإنسان وحجره بالفتح والكسر ، والمراد بقوله : { في حجوركم } أي في تربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته ، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره ، فصار الحجر عبارة عن التربية ، كما يقال : فلان في حضانة فلان ، وأصله من الحضن الذي هو الإبط ، وقال أبو عبيدة : في حجوركم أي في بيوتكم .
المسألة الثانية : روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي رضي الله عنه أنه قال : الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ، ثم فارق الأم بعد الدخول فإنه يجوز له أن يتزوج الربيبة ، ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال : { وربائبكم اللاتي في حجوركم } شرط في كونها ربيبة له ، كونها في حجره ، فإذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط ، فوجب أن لا تثبت الحرمة ، وهذا استدلال حسن . وأما سائر العلماء فإنهم قالوا : إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن ، والدليل عليه قوله تعالى : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول ، وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول . وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الإنسان تكون في تربيته ، فهذا الكلام على الأعم ، لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم .
المسألة الثالثة : تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } قال : لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا ، فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت ، وهذا الاستدلال في نهاية الضعف ، وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين : الأول : أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك ، فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين : الأول : أن قوله : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها ، والثاني : أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها ، وإلى من لا تكون كذلك ، بدليل قوله : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن } وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها ، وأما بيان أن المزنية ليست كذلك ، فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها ، أما في الزنا فإنه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه ، فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة في هذه الآية . الثاني : لو أوصى لنساء فلان ، لا تدخل هذه الزانية فيهن ، وكذلك لو حلف على نساء بني فلان ، لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية ، فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم .
النوع الثاني عشر : من المحرمات .
قوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الشافعي -رحمه الله- : لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إنه يجوز ، احتج الشافعي فقال : جارية الابن حليلة ، وحليلة الابن محرمة على الأب ، أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول : الحليلة فعيلة فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول ، ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الإباحة ، فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة ، ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له . الثاني : أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول ، فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول ، ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد ، فكانت حليلة له ، أما إذا قلنا : الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضا : الأول : أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك . الثاني : أن كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والألفة ، فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة ، وأما المقدمة الثانية وهي أن حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين } لا يقال : إن أهل اللغة يقولون : حليلة الرجل زوجته لأنا نقول : إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية ، فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت إليه . فكيف وهو شهادة على النفي ؟ فإنا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة ، ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية ، فقول من يقول : إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه .
المسألة الثانية : قوله : { الذين من أصلابكم } احترازا عن المتبني ، وكان المتبني في صدر الإسلام بمنزلة الابن ، ولا يحرم على الإنسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه ، نكح الرسول صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت زينب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة ، فقال المشركون : إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وقال : { لكى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } .
المسألة الثالثة : ظاهر قوله : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة ، فلما قال في آخر الآية : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع ، إلا أنه عليه السلام قال : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يتناول الرضاع وغير الرضاع ، فكان قوله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » أخص منه ، فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم .
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد ، وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن ، سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن . أما ما روي أن ابن عباس سئل عن قوله : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها . أو غير مخصوص بذلك ، فقال ابن عباس : أبهموا ما أبهمه الله ، فليس مراده من هذا الإبهام كونها مجملة مشتبهة ، بل المراد من هذا الإبهام التأييد . ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب : إنها من المبهمات ، أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد ، فكذا ههنا ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجد ، وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد ، وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة .
النوع الثالث عشر : من المحرمات .
قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما } في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } في محل الرفع ، لأن التقدير : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين .
المسألة الثانية : الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه : إما أن ينكحهما معا ، أو يملكهما معا ، أو ينكح إحداهما ويملك الأخرى ، أما الجمع بين الأختين في النكاح . فذلك يقع على وجهين : أحدهما : أن يعقد عليهما جميعا ، فالحكم ههنا : إما الجمع ، أو التعيين ، أو التخيير ، أو الإبطال ، أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا ، إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه ، لأن الحرمة لا تقتضي الإبطال على قول أبي حنيفة ، ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله ، ثم إنه يقع ، وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد ، وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة ، فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله .
فإن قالوا : وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه ، ثم أنه يقع .
قلنا : بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات ، فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب ، فثبت أن الجمع باطل . وأما أن التعيين أيضا باطل ، فلأن الترجيح من غير مرجح باطل ، وأما أن التخيير أيضا باطل ، فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين . وقد بينا بطلانه ، فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا .
الصورة الثانية : من صور الجمع : وهي أن يتزوج إحداهما ، ثم يتزوج الأخرى بعدها ، فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية ، لأن الدفع أسهل من الرفع ، وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين ، أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى ، فقد اختلفت الصحابة فيه ، فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر : لا يجوز الجمع بينهما : والباقون جوزوا ذلك . أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا ، فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه ، وعن عثمان أنه قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، والتحليل أولى ، فالآية الموجبة للتحليل هي قوله : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } وقوله : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } .
والجواب عنه من وجهين : الأول : أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا ، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء ، فنقول : لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك ، فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك ، أولى من أن تكون دالة على الجواز .
الوجه الثاني : إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع ، لكن نقول : الترجيح لجانب الحرمة ، ويدل عليه وجوه : الأول : قوله عليه الصلاة والسلام : «ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال » الثاني : أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » الثالث : أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة ، بدليل أنه إذا استوت الإمارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة ، ولأن النكاح مشتمل على المنافع العظيمة ، فلو كان خاليا عن جهة الإذلال والضرر ، لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع إليهن مندوب لقوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الإذلال والمضارة ، وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة ، والحل إنما ثبت بالعارض ، وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة ، فهذا هو تقرير مذهب علي رضي الله عنه في هذا الباب . أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء ، وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين ، فإذا وطئ إحداهما حرمت الثانية ، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج .
المسألة الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز ، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه : لا يجوز . حجة الشافعي : أنه لم يوجد الجمع فوجب أن لا يحصل المنع ، إنما قلنا : إنه لم يوجد الجمع لأن نكاح المطلقة زائل ، بدليل أنه لا يجوز له وطؤها ، ولو وطئها يلزمه الحد ، وإنما قلنا : أنه لما لم يوجد الجمع وجب أن لا يحصل المنع ، لقوله تعالى بعد تقرير المحرمات : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ولا شبهة في انتفاء جميع تلك الموانع ، إلا كونه جميعا بين أختين ، فإذا ثبت بالدليل أن الجمع منتف وجب القول بالجواز .
فإن قيل : النكاح باق من بعض الوجوه بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة عليها .
قلنا : النكاح له حقيقة واحدة ، والحقيقة الواحدة يمتنع كونها موجودة معدومة معا ، بل لو انقسمت هذه الحقيقة إلى نصفين حتى يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما صح ذلك ، أما إذا كانت الحقيقة الواحدة غير قابلة للتنصيف كان هذا القول فاسدا . وأما وجوب العدة ولزوم النفقة ، فاعلم أنه إن حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها ، وهذا لا ينتج أنه حصلت القدرة على حبسها للنكاح ؛ لأن استثناء عين التالي لا ينتج ، فبالجملة : فإثبات حق الحبس بعد زوال النكاح بطريق آخر معقول في الجملة ، فإما القول ببقاء النكاح حال القول بعدمه ، فذلك مما لا يقبله العقل ، وتخريج أحكام الشرع على وفق العقول ، أولى من حملها على ما يعرف بطلانها في بداهة العقول ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : قال الشافعي رحمة الله عليه : إذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن كان قد تزوج بهما دفعة واحدة فرق بينه وبينهما ، وان كان قد تزوج بإحداهما أولا وبالأخرى ثانيا ، اختار الأولى وفارق الثانية ، واحتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بقوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } قال : هذا خطاب عام فيتناول المؤمن والكافر ، وإذا ثبت أنه تناول الكافر وجب أن يكون النكاح فاسدا ، لأن النهي يدل على الفساد . فيقال له : إنك بنيت هذا الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وعلى أن النهي يدل على الفساد ، وأبو حنيفة لا يقول بواحد من هذين الأصلين ، فإن قال : فهما صحيحان على قولكم : فكان هذا الاستدلال لازما عليكم فنقول : قولنا : الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لا نعني به في أحكام الدنيا ، فإنه ما دام كافرا لا يمكن تكليفه بفروع الإسلام ، وإذا أسلم سقط عنه كل ما مضى بالإجماع ، بل المراد منه أحكام الآخرة ، وهو أن الكافر يعاقب بترك فروع الإسلام كما يعاقب على ترك الإسلام ، إذا عرفت هذا فنقول : أجمعنا على أنه لو تزوج الكافر بغير ولي ولا شهود ، أو تزوج بها على سبيل القهر ، فبعد الإسلام يقر ذلك النكاح في حقه ، فثبت أن الخطاب بفروع الشرائع لا يظهر أثره في الأحكام الدنيوية في حق الكافر ، وحجة الشافعي : أن فيروز الدبلمي أسلم على ثمان نسوة ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اختر أربعا وفارق سائرهن » خيره بينهن ، وذلك ينافي ما ذكرتم من الترتيب والله أعلم .
المسألة الخامسة : قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } فيه الإشكال المشهور : وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا إلا ما قد سلف ، وهذا يقتضي استثناء الماضي من المستقبل ، وإنه لا يجوز ، وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد ما سلف } والمعنى أن ما مضى مغفور بدليل قوله : { إن الله كان غفورا رحيما } ؟