قوله تعالى : { وهو الله في السموات وفي الأرض } ، يعني : وهو إله السموات والأرض ، كقوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } ، وقيل : هو المعبود في السموات ، وقال محمد بن جرير : معناه " وهو الله في السموات يعلم سركم وجهركم في الأرض " ، وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره : وهو الله .
{ 3 } { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }
أي : وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الأرض ، فأهل السماء والأرض ، متعبدون لربهم ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزه وجلاله ، الملائكة المقربون ، والأنبياء والمرسلون ، والصديقون ، والشهداء والصالحون .
وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال التي تقربكم منه ، وتدنيكم من رحمته ، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته .
وقوله : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال ، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجَهْمِيَّة{[10567]} الأول القائلين بأنه - تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا - في كل مكان ؛ حيث حملوا الآية على ذلك ، فأصح الأقوال أنه{[10568]} المدعو الله في السموات وفي الأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رَغَبًا ورَهَبًا ، إلا من كفر من الجن والإنس ، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] ، أي : هو إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } خبرًا أو حالا .
والقول الثاني : أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض ، من سر وجهر . فيكون قوله : { يَعْلَمُ } متعلقًا بقوله : { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ } تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون .
والقول الثالث أن قوله { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ } وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : { وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } وهذا{[10569]} اختيار ابن جرير .
وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي : جميع أعمالهم خيرها وشرها .
{ وهو الله } الضمير لله سبحانه وتعالى و{ الله } خبره . { في السماوات وفي الأرض } متعلق باسم { الله } والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير ، كقوله سبحانه وتعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أو بقوله : { يعلم سركم وجهركم } والجملة خبر ثان ، أو هي الخبر و{ الله } بدل ، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبرا ، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما ، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقا بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه . { ويعلم ما تكسبون } من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب ، ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح .
عطف على قوله { هو الذي خلقكم من طين } أي خلقكم ولم يهمل مراقبتكم ، فهو يعلم أحوالكم كلها .
فالضمير مبتدأ عائد إلى اسم الجلالة من قوله { الحمد لله } وليس ضمير فصل إذ لا يقع ضمير الفصل بعد حرف العطف . وقوله { الله } خبر عن المبتدأ . وإذ كان المبتدأ ضميرا عائدا إلى اسم الله لم يكن المقصود الإخبار بأن هذا الذي خلق وقضى هو الله إذ قد علم ذلك من معاد الضمائر ، فتعين أن يكون المقصود من الإخبار عنه بأنه الله معنى يفيده المقام ، وذلك هو أن يكون كالنتيجة للأخبار الماضية ابتداء من قوله { الحمد لله الذي خلق } فنبه على فساد اعتقاد الذين أثبتوا الإلهية لغير الله وحمدوا ألهتهم بأنه خالق الأكوان وخالق الإنسان ومعيده ، ثم أعلن أنه المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض ؛ إذ لا خالق غيره كما تقرر آنفا . وإذ هو عالم السر والجهر ، وغيره لا إحساس له فضلا عن العقل فضلا عن أن يكون عالما .
ولما كان اسم الجلالة معروفا عندهم لا يلتبس بغيره صار قوله { وهو الله } في معنى الموصوف بهذه الصفات هو صاحب هذا الاسم لا غيره .
وقوله : { في السموات وفي الأرض } متعلّق بالكون المستفاد من جملة القصر ، أو بما في { الحمد لله } [ الأنعام : 1 ] من معنى الإنفراد بالإلهية ، كما يقول من يذكر جواداً ثم يقول : هو حاتم في العرب ، وهذا لقصد التنصيص على أنّه لا يشاركه أحد في صفاته في الكائنات كلّها .
وقوله : { يعلم سرّكم وجهركم } جملة مقرّرة لمعنى جملة { وهو الله } ولذلك فصلت ، لأنّها تتنزّل منا منزلة التوكيد لأنّ انفراده بالإلهية في السماوات وفي الأرض ممّا يقتضي علمه بأحوال بعض الموجودات الأرضية .
ولا يجوز تعليق { في السماوات وفي الأرض } بالفعل في قوله : { يعلم سرّكم } لأنّ سرّ النّاس وجهرهم وكسبهم حاصل في الأرض خاصّة دون السماوات ، فمن قدّر ذلك فقد أخطأ خطأ خفيّاً .
وذكر السرّ لأنّ علم السرّ دليل عموم العلم ، وذكر الجهر لاستيعاب نوعي الأقوال . والمراد ب { تكسبون } جميع الاعتقادات والأعمال من خير وشر فهو تعريض بالوعد والوعيد .
والخطاب لجميع السامعين ؛ فدخل فيه الكافِرون ، وهم المقصود الأول من هذا الخطاب ، لأنّه تعليم وإيقاظ بالنسبة إليهم وتذكير بالنسبة إلى المؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.