معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } ، يعني الأمم الماضية ، والقرن : الجماعة من الناس ، وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال : ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر المازني : إنك تعيش قرناً فعاش مائة سنة ، فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل القرن .

قوله تعالى : { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } . أي : أعطيناهم ما لم نعطكم ، وقال ابن عباس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح ، وعاد ، وثمود . يقال : مكنته ومكنت له . قوله تعالى : { وأرسلنا السماء عليهم مدراراً } يعني : المطر ، مفعال ، من الدر . قال ابن عباس : مدراراً أي : متتابعاً في أوقات الحاجات ، وقوله : " ما لم نمكن لكم " من خطاب التلوين ، رجع من الخبر من قوله : { ألم يروا } إلى خطاب ، كقوله : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس :22 ] . وقال هل البصرة : أخبر عنهم بقوله : { ألم يروا } وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خاطبهم معهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه ؟ وقلت ، لعبد الله ما أكرمك ؟

قوله تعالى : { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا } خلقنا وابتدأنا .

قوله تعالى : { من بعدهم قرناً آخرين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

ثم أمرهم أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين ، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك ، بأن { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ } لهؤلاء من الأموال والبنين والرفاهية .

{ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } فينبت لهم بذلك ما شاء الله ، من زروع وثمار ، يتمتعون بها ، ويتناولون منها ما يشتهون ، فلم يشكروا الله على نعمه ، بل أقبلوا على الشهوات ، وألهتهم أنواع اللذات ، فجاءتهم رسلهم بالبينات ، فلم يصدقوها ، بل ردوها وكذبوها فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ { مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }

فهذه سنة الله ودأبه ، في الأمم السابقين واللاحقين ، فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

ثم قال تعالى واعظًا ومحذرًا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر جمعًا ، وأكثر أموالا وأولادًا واستغلالا للأرض وعمارة لها ، فقال { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ } أي : من الأموال والأولاد والأعمار ، والجاه العريض ، والسعة والجنود ، { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا } أي : شيئًا بعد شيء ، { وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } أي : أكثرنا{[10570]} عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض ، أي : استدراجًا وإملاء لهم { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي : بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها ، { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } أي : فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث ، { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } أي : جيلا آخر لنختبرهم ، فعملوا مثل أعمالهم{[10571]} فهلكوا كهلاكهم . فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم [ مثل ]{[10572]} ما أصابهم ، فما أنتم بأعز على الله منهم ، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم ، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم ، لولا لطفه وإحسانه .


[10570]:في د، م، أ: "كثرنا".
[10571]:في د، م: "عملهم".
[10572]:زيادة من أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } أي من أهل زمان ، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة . وقيل ثمانون . وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم . قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت . { مكناهم في الأرض } جعلنا لهم فيها مكانا وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها . { ما لم نمكن لكم } ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب . { وأرسلنا السماء عليهم } أي المطر أو السحاب ، أو المظلة إن مبدأ المطر منها . { مدرارا } أي مغزارا . { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار . { فأهلكناهم بذنوبهم } أي لم يغن ذلك عنهم شيئا . { وأنشأنا } وأحدثنا . { من بعدهم قرنا آخرين } بدلا منهم ، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر به بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

الجملة بيان لجملة : { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } . جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدلّ حالها على أنّها مسلّطة عليهم من الله عقاباً لهم على التكذيب .

والرؤية يجوز أن تكون قلبية ، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم ، ويجوز أن تكون بصربة بتقدير : ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحِجْر ثمود ، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم ، وحدّثوا عنها الناس حتى تواترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحقّقتها نفوسهم .

وعلى كلا الوجهين ففعل { يَرَوا } معلّق عن العمل في المفعولين أو المفعول ، باسم الاستفهام وهو { كم } .

و ( كم ) اسم للسؤال عن عدد مبهم فلا بدّ بعده من تفسير ، وهو تمييزه . كما تقدّم في قوله تعالى : { سَل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية } في سورة البقرة ( 211 ) وتكون خبرية فتدلّ على عدد كبير مبهم ولا بدّ من مفسّر هو تمييز للإبهام . فأمّا الاستهامية فمفسّرها منصوب أو مجرور ، وإن كانت خبرية فمفسّرها مجرور لا غير ، ولمّا كان ( كم ) اسماً في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفعٌ ونصب وجرّ ، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين { ليرَوا } . و ( مَنْ ) فزائدة جارّة لمميّز { كم } الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميّزها فإنّ ذلك يوجب جرّه ب ( من ) ، كما بيّناه عند قوله تعالى : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة } في سورة البقرة .

والقرن أصله الزمن الطويل ، وكثر إطلاقه على الأمّة التي دامت طويلاً . قال تعالى : { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } . وفسّر القرن بالأمّة البائدة . ويطلق القرن على الجيل من الأمّة ، ومنه حديث { خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } . ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر ، وقيل : غير ذلك .

وجملة : { مكّنّاهم } صفة ل { قرن } وروعي في الضمير معنى القرن لأنّه دالّ على جمع .

ومعنى : { مكّنّاهم في الأرض } ثبّتناهم وملّكناهم ، وأصله مشتقّ من المكان . فمعنى مكّنه ومكّن له ، وضع له مكاناً . قال تعالى : { أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً } . ومثله قولهم : أرَضَ له . ويكنّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرّف ، لأنّ صاحب المكان يتصرّف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر . ويقال : هو مكين بمعنى مُمَكّن ، فعيل بمعنى مفعول . قال تعالى : { إنّك اليوم لدينا مكين أمين } فهو كناية أيضاً بمرتبة ثانية ، أو هو مجاز مرسل مرتّب على المعنى الكنائي . والتمكين في الأرض تقوية التصرّف في منافع الأرض والاستظهار بأساباب الدنيا ، بأن يكون في منعة من العدوّ وفي سعة في الرزق وفي حسن حال ، قال تعالى : { إمّا مكنّا له في الأرض } ، وقال : { الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة } الآية .

فمعنى مكَّنه : جعله متمكّناً ومعنى مكّن له : جعله متمكّناً لأجله ، أي رعيا له ، مثل حمده وحمد له ، فلم تزده اللام ومجرورها إلاّ إشارة إلى أنّ الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول ، ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصيّر مكّنه ومكّن له بمعنى واحد ، فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي . ودليل ذلك قوله تعالى : هنا { مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم } فإنّ المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعيّن أن يكون معنى الفعلين مستوياً ، ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين ، إذ التفاوت لا يظهر إلاّ في شيء واحد ، ولأنّ كون القرون الماضية أقوى تمكّنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين ، وقد عكس هنا . وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكّنه ومكّن له ، وقول الزمخشري بأن : مكّن له بمعنى جعل له مكاناً ، ومكّنه بمعنى أثبته . وكلام الراغب أمكن عربية . وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة . واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنّه يستلزم التقوية . وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة .

و { ما } موصولة معناها التمكين ، فهي نائبة عن مصدر محذوف ، أي تمكيناً لم نمكنّه لكم ، فتنتصب ( ما ) على المفعولية المطلقة المبيّنة للنوع . والمقصود مكّناهم تمكيناً لم نمكَّنه لكم ، أي هو أشدّ من تمكينكم في الأرض .

والخطاب في قوله : { لكم } التفات موجّه إلى الذين كفروا لأنّهم الممكّنون في الأرض وقت نزول الآية ، وليس للمسلمين يومئذٍ تمكين . والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجريْن بهم } . والمعنى أنّ الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشدّ قوة وأكثر جمعاً من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة . وحسبك أنّ العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنّها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى : { وعمروها أكثر ممّا عمروها } أي عمَرَ الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر ممّا عمرها أهل العصر .

والسماء من أسماء المطر ، كما في حديث « الموطأ » من قول زيد بن خالد : صلىّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سماء ، أي عقب مطر . وهو المراد هنا لأنّه المناسب لقوله : { أرسلنا } بخلافه في نحو قوله : { وأنزلنا من السماء ماء } . والمدرار صيغة مبالغة ، مثل منحار لكثير النحر للأضياف ، ومذكار لمن يولد له الذكور ، من درّت الناقة ودرّ الضرع إذا سمح ضرعها باللبن ، ولذلك سمّي اللبن الدّر . ووصفُ المطر بالمدرار مجاز عقلي ، وإنّما المدرار سحابه . وهذه الصيغة يستوي فيها المذكّر والمؤنّث .

والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله .

ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأدية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض ، وقد كانت حالةَ معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة ، كما علمه الله ودلّت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها ، ثم تغيّرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حلّ سنين ببلاد عاد ، أو أرضية ، فصار معظمها قاحلاً فهلكت أممها وتفرّقوا أيادي سَبا .

وقد تقدّم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو { أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار } في سورة البقرة ( 25 ) .

والفاء في قوله : { فأهلكناهم } للتعقيب عُطف على { مكّنّاهم } وما بعده . ولمّا تعلّق بقوله : { فأهلكناهم } قوله : { بذنوبهم } دلّ على أنّ تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا . فالتقدير : فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم ، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم ، ففيه إيجاز حذف على حدّ قوله تعالى : { أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } الآية ، أي فضرب فانفجرت الخ . ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلاً ل { أهلكنا } الأول على نحو قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } في سورة الأعراف ( 4 ) .

والإهلاك : الإفناء ، وهو عقاب للأمّة دالّ على غضب الله عليها ، لأنّ فناء الأمم لا يكون إلاّ بما تجرّه إلى نفسها من سوء فعلها ، بخلاف فناء الأفراد فإنْه نهاية محتّمة ولو استقام المرء طول حياته ، لأنّ تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقاباً إلاّ فيما يحفّ به من أحوال الخزي للهالك .

والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك ممّا دلّ عليه التنظير بحال الذين قال الله فيهم هنا : { بربهم يعدلون ثم أنتم تمترون وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحقّ لمّا جاءهم } ، وما قاله بعد ذلك { ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية .

وقوله : { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } : الإنشاء الإيجاد المبتكَر ، قال تعالى : { إنّا أنشأناهن إنشاء } . والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب ، فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا ، كما أنشأ قريشاً في ديار جرهم ، أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثموداً بعد عاد في منازل أخرى . والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأنّ الله مهلكهم ومنشىء من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم . ففيه نذارة بفتح مكّة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين . وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق ، لأنّ ذلك أمر مستمرّ في البشر لا ينتهي ، وليس فيه عظة ولا تهديد للجبايرة المشركين . وأفرد { قرناً } مع أنّ الفعل الناصب له مقيّد بأنّه من بعد جمع القرون ، على تقدير مضاف ، أي أنشأنا من بعد كلّ قرن من المهلكين قرناً آخرين .