قوله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم } ، تستجيرون به من عدوكم ، وتطلبون منه الغوث والنصر . روي عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، واستقبل القبلة ، ومد يده ، فجعل يهتف بربه عز وجل : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) ، فما زال يهتف بربه عز وجل ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله عز وجل { إذ تستغيثون ربكم } .
قوله تعالى : { فاستجاب لكم أني ممدكم } ، مرسل إليكم مدداً وردءاً لكم .
قوله تعالى : { بألف من الملائكة مردفين } ، قرأ أهل المدينة ويعقوب ( مردفين ) مفتح الدال ، أي : أردف الله المسلمين ، وجاء بهم مدداً ، وقرأ الآخرون بكسر الدال ، أي : متتابعين بعضهم في أثر بعض ، يقال : أردفته بمعنى تبعته . يروى أنه نزل جبريل في خمسمائة ، وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال ، على خيل بلق ، عليهم ثياب بيض ، وعلى رؤوسهم عمائم بيض ، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ناشد ربه عز وجل ، وقال أبو بكر : إن الله منجز لك ما وعدك ، خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه ، فقال : يا أبا بكر أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إبراهيم بن موسى ، ثنا عبد الوهاب ، ثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : ( هذا جبريل آخذ برأس فرسه ، عليه أداة الحرب ) .
وقال عبد الله بن عباس : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ، ويوم حنين عمائم خضر ، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه عدداً ومدداً .
وروي عن أبي أسيد بن مالك بن ربيعة قد شهد بدراً أنه قال بعدما ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة .
9 - 14 إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ .
أي : اذكروا نعمة اللّه عليكم ، لما قارب التقاؤكم بعدوكم ، استغثتم بربكم ، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم فَاسْتَجَابَ لَكُمْ وأغاثكم بعدة أمور : .
منها : أن اللّه أمدكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي : يردف بعضهم بعضا .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح قُرَاد ، حدثنا عكرمة بن عَمَّار ، حدثنا سماك الحَنَفي أبو زُميل ، حدثني ابن عباس{[12681]} حدثني عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : لما كان يوم بدر نظر النبي{[12682]} صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة ونَيّف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أين ما وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا " ، قال : فما زال يستغيث ربه [ عز وجل ]{[12683]} ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا رسول الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله ، عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } فلما كان يومئذ والتقوا ، فهزم الله المشركين ، فقُتِل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليًّا وعمر{[12684]} فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه منهم قُوَّةً لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ترى يا ابن الخطاب ؟ " قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تُمْكنَني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتُمكن عليًّا من عقيل فيضربَ عنقه ، وتُمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس{[12685]} في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فَهَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد - قال عمر - غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، [ أخبرني ]{[12686]} ما{[12687]} يبكيك أنت وصاحبك ، فإن وجدتُ بكاء بَكَيتُ ، وإن لم أجد بكاء تَبَاكيتُ لبكائكما ! قال النبي صلى الله عليه وسلم : " للذي عَرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، قد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة " ، وأنزل الله [ عز وجل ]{[12688]} { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ }
إلى قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } [ الأنفال : 67 ، 68 ] من الفداء ، ثم أحل لهم الغنائم ، فلما كان يوم أحد من العام المقبل ، عوقبوا مما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفَرَّ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت ربَاعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[12689]} { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 165 ] بأخذكم الفداء . .
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مَرْدُويه ، من طرق عن عكرمة بن عمار ، به . وصححه علي بن المديني والترمذي ، وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني{[12690]}
وهكذا رَوَى علي بن أبي طلحة والعَوْفي ، عن ابن عباس : أن هذه الآية الكريمة قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ] }{[12691]} أنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد{[12692]} بن يُثيَع ، والسُّدِّي ، وابن جريج .
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي حُصَين ، عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو ، فأتاه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، بعض{[12693]} نِشْدَتِك ، فوالله ليفيَن الله لك بما وعدك{[12694]}
وقال البخاري في " كتاب المغازي " ، باب قول الله عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا إسرائيل ، عن مُخَارق ، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به : أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول{[12695]} كما قال قوم موسى لموسى : { اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ]ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، وبين يديك وخلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره - يعني قوله{[12696]}
وحدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " اللهم أنشدك عَهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تُعْبَد " ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك ! فخرج وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] .
ورواه النسائي عن بُندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي{[12697]}
وقوله تعالى : { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي : يُرْدفُ بعضُهم بعضًا ، كما قال هارون بن عنترة{[12698]} عن ابن عباس : { مُرْدِفِينَ } متتابعين .
ويحتمل أن [ يكون ]{[12699]} المراد { مُرْدِفِينَ } لكم ، أي : نجدة لكم ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس : { مُرْدِفيِنَ } يقول : المدَدَ ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا .
وهكذا قال مجاهد ، وابن كثير القارئ ، وابن زيد : { مُرْدِفِينَ } ممدين .
وقال أبو كُدَيْنة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } قال : وراء كل ملك ملك .
وفي رواية بهذا الإسناد : { مُرْدِفِينَ } قال : بعضهم على أثر بعض . وكذا قال أبو ظِبْيَان ، والضحاك ، وقتادة .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، عن الزَّمْعِي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جُبَيْر ، عن علي رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في الميسرة .
وهذا يقتضي - لو صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها ؛ ولهذا قرأ بعضهم : " مُرْدَفِين " بفتح الدال ، فالله أعلم .
والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة .
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ، ومسلم ، من حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زُمَيل سِمَاك بن وليد الحَنَفي ، عن ابن عباس ، عن عمر ، الحديث المتقدم . ثم قال أبو زُمَيل{[12700]} حدثني{[12701]} ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوتَ الفارس يقول : " أقدم حَيْزُوم{[12702]} إذ نظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا قال : فنظر إليه ، فإذا هو قد خُطِم أنفه ، وشُقَّ وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " صدقتَ ، ذلك{[12703]} من مَدَد السماء الثالثة " ، فقَتَلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
وقال البخاري : " باب شهود الملائكة بدرا " : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : " من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال : " وكذلك من شهد بدرا من الملائكة .
انفرد بإخراجه البخاري{[12704]} وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خَدِيج ، وهو خطأ{[12705]} والصواب رواية البخاري ، والله [ تعالى ]{[12706]} أعلم .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بَلْتَعَة : " إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد{[12707]} غفرت لكم " {[12708]}
{ إذ تستغيثون ربكم } بدل من { إذ يعدكم } أو متعلق بقوله { ليحق } بقوله { ليحق الحق } ، أو على إضمار اذكر ، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله : كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . { فاستجاب لكم أني مُمدّكم } بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول . { بألف من الملائكة مردفين } متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت بعده ، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين ، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه . وقرأ نافع ويعقوب " مُرِدفين " بفتح الدال أي متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم . وقرئ { مُرِدفين } بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع . وقرئ " بآلاف " ليوافق ما في سورة " آل عمران " ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة ، أو وجوههم وأعيانهم ، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها .
وقوله : { إذ تستغيثون ربكم } الآية ، { إذ } متعلقة بفعل ، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال الآية : 7 ] وقال الطبري : هي متعلقة ب { يحق . . ويبطل } .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يعمل فيها { يعدكم } [ الأنفال : 7 ] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم ، و { تستغيثون } معناه تطلبون ، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم ، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى ، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال ، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك ، وقرأ جمهور الناس «أني » بفتح الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني » بكسر الألف أي قال إني ، و { ممدكم } أي مكثركم ومقويكم من أمددت . وقرأ جمهور الناس «بألف » وقرأ عاصم الجحدري «بآلف »{[5227]} على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف ، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران{[5228]} ، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً «بآلاف » و { مردفين } معناه متبعين ، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف { مردفين } على هذا حال من الضمير في قوله { ممدكم } ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع «مردِفين » بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً{[5229]} وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك ، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء ، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين .
ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً ، ومن قال «مردفين » بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية ، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مرَدِّفين » بفتح الراء وكسر الدال وشدها .
وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك ، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك ، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه ، وحكاه أبو حاتم قال : كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ، ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة ، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر [ خزيمة بن مالك ] : [ الوافر ]
إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثّريَا*** ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا{[5230]}
والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر ، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل : لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف ، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها ، وقال ابن عباس : كانا في خمسمائة خمسمائة ، وقال الزجّاج : قال بعضهم : إن الملائكة خمسة آلاف ، وقال بعضهم : تسعة آلاف ، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير .