الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

قوله : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } إلى قوله : { إن الله عزيز حكيم }[ 9-10 ] . قرأ عيسى بن عمر : " إني ممدكم " ، أي : قال : إني ممدكم{[26882]} .

ومن قرأ : { مردفين } ، بفتح{[26883]} الدال ، يجوز أن يكون نصبا على الحال من الضمير في : { ممدكم }{[26884]} .

وقيل : هو في موضع خفض نعت ل{[26885]} : " ألف " {[26886]} .

ومن كسر الدال{[26887]} فمعناه : يُردف بعضهم بعضا ، أي : يتبع بعضهم بعضا{[26888]} . يقال : ردفته{[26889]} وأردفته : إذا تبعته{[26890]} .

وأنكر أبو عبيد{[26891]} أن يكون/المعنى : يُردف بعضهم بعضا ، أي : يحمله خلفه ، ودفع قراءة الكسر على هذا التأويل{[26892]} .

والوجه أنهم يتبعون بعضهم بعضا في الإتيان{[26893]} لا في الركوب{[26894]} ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : وراء كل مَلَكٍ مَلَكٌ{[26895]} .

فمعنى الكسر : أن الملائكة يُردف بعضها بعضا{[26896]} ، أي : يتبع{[26897]} .

ومعنى الفتح : أن الله أردف بهم المؤمنين{[26898]} .

حكى سيبويه " مردفين " : بفتح الراء ، وتشديد الدال وكسرها{[26899]} .

وأصله : " مرتدفين " ، ثم أدغم " التاء " في " الدال " بعد أن ألقى حركتها على " الراء " {[26900]} .

وحكى أيضا : " مردفين " بكسر الراء{[26901]} ، على أنه " مرتدفين " أيضا ، لكن أدغم وكسر الراء لالتقاء الساكنين ، ولم يلق عليها حركة " التاء " {[26902]} .

ومعنى الآية : { ليحق الحق ويبطل الباطل }[ 8 ] ، { إذ تستغيثون ربكم }[ 9 ] ، أي : حين ذلك{[26903]} ، أي : تستجيرون{[26904]} به من عدوكم ، { فاستجاب } ربكم { لكم أني ممدكم } ، أي : بأني{[26905]} { ممدكم بألف من الملائكة } يردف بعضهم بعضا ، أي : يتلو{[26906]} . وروي عن عاصم{[26907]} : " ألف " {[26908]} ، على وزن " أَفْعُل " {[26909]} .

قال ابن عباس : لما اصطف القوم ، قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره ! ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يده ، وقال : يا رب ، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا{[26910]} .

قال السدي : فاستجاب الله عز وجل ، له ونصره بالملائكة ، وذلك يوم بدر{[26911]} .

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاث مائة وبضعة عشر ، استقبل القبلة ، ثم مدّ يده ، وجعل يهتف بربه : " اللهم أنجز ما وعدتني " ، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه صلى الله عليه وسلم ، عن منكبيه ، فرده أبو بكر على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، فقال : يا نبي الله كذلك{[26912]} مناشدتك{[26913]} ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك{[26914]} ! .


[26882]:إعراب القرآن للنحاس 2/178، وعنه نقل مكي، وشواذ القرآن لابن خالويه 54، وفيه: "عيسى وأحمد عن أبي عمرو"، والمحرر الوجيز 2/504، وفيه: "وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه، وعيسى بن عمر بخلاف عنه: "إني"، بكسر الألف، أي: قال: "إني، والبحر المحيط 4/460، وفيه: "وقرأ الجمهور: {إني} بفتح، أي: "بأني"، وعيسى بن عمر، ورواها عن أبي عمرو: "إني" بكسرها على إضمار القول على مذهب البصريين...".
[26883]:وهي قراءة نافع وحده، كما في الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/489، وفيه: "وحجة من فتح: أنه بناه على ما لم يسمّ فاعله؛ لأن الناس الذين قاتلوا يوم بدر أردفوا بألف من الملائكة أي: أنزلوا إليهم لمعونتهم على الكفار": وكتاب السبعة في القراءات 304، وإعراب القراءات السبع لابن خالويه 1/221، وحجة القراءات لأبي زرعة 307، والتيسير 95. وانظر: جامع البيان 13/416، ففيه تعقيب على قراءة فتح الدال.
[26884]:مشكل إعراب القرآن 1/311، والكشف عن وجوه القراءات السبع 1/489، وإعراب القرآن للنحاس 2/178، وفيه: "...يكون في موضع نصب على الحال من: "كم" في: {ممدكم}، أي: أردف بهم المؤمنين، وهذا مذهب مجاهد: أي: ممدين".
[26885]:في "ر": للألف.
[26886]:مشكل إعراب القرآن 1/311، بلفظ: "...أو نعتا لـ: "ألف"، تقديره: يمدكم متبعين بألف"، والكشف 1/489، وإعراب القرآن للنحاس 2/178، والبيان في غريب القرآن 1/384، وتفسير القرطبي 7/236.
[26887]:وهي قراءة باقي السبعة: ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، عدا نافع. الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/489، وكتاب السبعة في القراءات 304، وإعراب القراءات السبع وعللها 1/221، والتيسير في القراءات السبع 95، وزاد المسير 3/326. وبها قرأ الحسن، ومجاهد، كما في تفسير ابن عطية 2/504، والبحر المحيط 4/460، وهي الاختيار عند مكي في الكشف، وعند الطبري في جامع البيان 13/416.
[26888]:قال في تفسير مشكل الغريب 180: {مردفين}: بعضهم في إثر بعض".
[26889]:ردفته، بالكسر،: لحقته وتبعته. المصباح / ردف.
[26890]:انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/489، ومشكل إعراب القرآن 1/312، وجامع البيان 13/414، وإعراب القرآن للنحاس 2/178، وإعراب القراءات السبع وعللها 1/221، وحجة القراءات لأبي زرعة 307، والدر المصون 3/399.
[26891]:هو: القاسم بن سلام، أبو عبيد الأنصاري البغدادي، الإمام، ألف في القراءات، ومعاني القرآن،والفقه، واللغة، والشعر. توفي بمكة سنة 224هـ. انظر معرفة القراء الكبار 1/170، وطبقات المفسرين للداودي 2/37.
[26892]:إعراب القرآن للنحاس 2/178، بلفظ: "و{مردفين} بكسر الدال، قال أبو عمرو فيه: أي: أردف بعضهم بعضا، ورد أبو عبيد على أبي عمرو هذا القول، وأنكر كسر الدال، واحتج أن معنى أردف فلان فلانا جعله خلفه. قال: ولا نعلم هذا في صفة الملائكة يوم بدر، وأنكر أن يكون أردف بمعنى ردف. قال: لقول الله عز وجل: {تتبعها الرادفة}[النازعات آية: 7]، ولم يقل: المردفة...". انظر: مشكل إعراب القرآن 1/312، وجامع البيان 13/414، ففيه قول أبي عبيدة من غير نسبة.
[26893]:في الأصل: الإيتار، براء مهملة، وهو تحريف.
[26894]:هذه خلاصة رد النحاس على أبي عبيد. انظر: إعراب القرآن 2/178.
[26895]:جامع البيان 13/412، وتفسير ابن كثير 2/290، والدر المنثور 4/30.
[26896]:وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء كما في جامع البيان 13/414، وإعراب القرآن للنحاس 2/178. انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/489.
[26897]:في تفسير القرطبي 7/135،: "بالكسر": اسم فاعل، أي: متتابعين، تأتي فرقة بعد فرقة، وذلك أهيب في العيون".
[26898]:قال في الكشف 1/489: "وحجة من فتح: أنه بناه على ما لم يسم فاعله؛ لأن الناس الذين قاتلوا يوم بدر أردفوا بألف من الملائكة، أي: أنزلوا إليهم لمعونتهم على الكفار". انظر: جامع البيان 13/414، 416.
[26899]:معاني القرآن للزجاج 3/403، وإعراب القرآن للنحاس 2/189، وتفسير القرطبي 7/236، وهي رواية الخليل بن أحمد عن بعض المكيين، كما في مختصر في شواذ القرآن 45، والمحتسب في تبيين وجوه القراءات 1/273، والمحرر الوجيز 2/504، والبحر المحيط 4/460، والدر المصون 3/399. وفي جامع البيان 13/417، عزيت لعبد الله بن يزيد. وهي غير منسوبة في البيان في غريب إعراب القرآن 1/384، وفي التبيان في إعراب القرآن 2/617.
[26900]:إعراب القرآن للنحاس 2/189، وتمام نصه: "لئلا يلتقى ساكنان"، وتفسير القرطبي 7/236. وانظر: الكتاب 4/444، ومعاني القرآن للزجاج 2/403، والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات 1/273، وزاد المسير 3/327.
[26901]:في المحرر الوجيز 2/505: "حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه، وحكاه أبو حاتم [السجستاني]...". وفي جامع البيان 13/417: "قال عبد الله بن يزيد...". وهي رواية عن الخليل في المحتسب 1/273.
[26902]:لمزيد بيان انظر: معاني القرآن للزجاج 2/403، والمحتسب 1/273، والمحرر الوجيز 2/505، وزاد المسير 3/326، والتبيان في إعراب القرآن 2/617، وتفسير القرطبي 7/236، والبحر المحيط 4/460، والدر المصون 3/399.
[26903]:في جامع البيان 13/408، الذي نقل عنه مكي: "حين تستغيثون ربكم، فـ:{إذ} من صلة {يبطل}".
[26904]:انظر: الفرق بين المستجير والمنتصر في تفسير الماوردي 2/298، وزاد المسير 3/325.
[26905]:في الكشاف 2/190: "{أني ممدكم}،أصله: بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه "استجاب" فنصب محله". وهي قراءة العامة كما سلف، انظر: التحرير والتنوير 9/275.
[26906]:جامع البيان 13/409، بتصرف يسير. والمعنى الذي انتهى إليه مكي هاهنا، هو ترجيح لقراءة كسر الدال، وهو ما نص عليه في الكشف 1/489، بقوله: "وكسر الدال أحب إليَّ؛ لأنه قد يكون بمعنى الفتح؛ ولأن عليه أكثر القراء".
[26907]:الجحدري.
[26908]:قال في مشكل إعراب القرآن 1/311: "وروي عن عاصم أنه قرأ بـ: "آلُفٌ" من الملائكة، جعله جمع "ألف"، "فعلا" على "أفعل"، كـ: "فَلُسَ" و"أفْلُس". وتصديق هذه القراءة قوله تعالى: {بخمسة ألف} [آل عمران: 125]. فآلف جمع ألف لما دون العشرة وهي واقعة على خمسة آلاف المذكورة في آل عمران".
[26909]:إعراب القرآن للنحاس 2/178، وعنه نقل مكي، والمحرر الوجيز 2/504، وتفسير القرطبي 7/236. وهي غير منسوبة في البيان في غريب إعراب القرآن 1/384، والتبيان في إعراب القرآن 2/617. وفي حاشية الصاوي على الجلالين: "وقرئ بـ: آلف، كـ: أفلس، أي: شذوذا. قوله: كأفلس، أي: فأبدلت الهمزة الثانية ألفا". انظر: زاد المسير 3/226.
[26910]:صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس 247، وجامع البيان 13/410.
[26911]:لم أجده بهذا اللفظ. وفي جامع البيان 13/411: "حدثني محمد بن الحسين قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم، يدعو الله ويستغيثه ويستنصره، فأنزل الله عليه الملائكة".
[26912]:كذا في المخطوطتين، وفي تفسير غريب ما في الصحيحين 51،: "كذلك مناشدتك ربك: إشارة إلى الرفق وترك الإلحاح". وفي مشارق الأنوار 2/421،: "قوله: "كذاك مناشدتك ربك"، كذا لهم. وعند العذري: "كفاك"، بالفاء، وهما بمعنى: قال ابن قتيبة معناه: حسبك،...". وفي النهاية في غريب الحديث 4/160،: "ومنه حديث أبي بكر يوم بدر: "يا نبي الله كذاك"، أي: حسبك الدعاء". وفي اللسان / كذا: "وفي حديث عمر: كذاك لا تذعروا إبلنا أي: حسبكم". انظر: غريب الحديث لابن قتيبة 2/37، 38. وفي مصادر التوثيق أسفله، هامش 3: "كفاك"، عدا: زاد المسير، فقيه "كذاك"، وفي هامشه: "هكذا وقع لجماهير رواة مسلم "كذاك" ولبعضهم "كفاك" وكل بمعنى...".
[26913]:في الأصل: منا شهدتك، وهو تحريف.
[26914]:جامع البيان 13/409، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1662، وتفسير البغوي 3/332، والكشاف 2/190، وزاد المسير 3/325، وتفسير ابن كثير 2/289، مطولا، والدر المنثور 4/28، مطولا وحاشية الجمل على الجلالين 3/171، وفتح القدير 2/331. وقال الشيخ محمود شاكر في هامش تحقيقه لجامع البيان: "...وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه، مطولا..."، ورواه أحمد في مسنده،..." وروى بعضه أبو داود في سننه، ورواه الترمذي في كتاب التفسير، مختصرا...ورواه أبو جعفر الطبري في تاريخه من هذه الطريق نفسها".