اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } الآية .

في " إذْ " خمسة أوجه :

أحدها : أنَّهُ منصوبٌ ب " اذْكر " مضمراً ، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً ، أي : إنَّهُ منقطعٌ عمَّا قبله .

والثاني : أنَّهُ منصوب ب " يُحِقَّ " أي : يحقُّ الحقَّ وقت استغاثتكم ، وهو قول ابن جرير وهو غلط ؛ لأن " لِيُحِقَّ " ، مستقبل ؛ لأنَّه منصوبٌ بإضمار " أنْ " و " إذْ " ظرف لما مضى ، فكيف يعمل المستقبل في الماضي ؟ .

الثالث : أنَّهُ بدلٌ من " إذ " الأولى ، قاله الزمخشري ، وابن عطيَّة ، وأبُو البقاءِ وكانوا قد قدَّمُوا أنَّ العامل في " إذْ " الأولى " اذكر " مقدراً .

الرابع : أنَّهُ منصوب ب " يَعِدُكُمُ " قاله الحوفيُّ ، وقبله الطبري .

الخامس : أنَّهُ منصوب بقوله " تَوَدُّونَ " قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصْلِ .

واستغاث : يتعدَّى بنفسه ، وبالباءِ ، ولم يجئ في القرآن إلاَّ متعدِّياً بنفسه ، حتَّى نقم ابن مالك على النحويين قولهم : المستغاث له ، أو به ، والمستغاث من أجله ، وقد أنشدوا على تعدِّيه بالحرف قول الشاعر : [ البسيط ]

حَتَّى اسْتَغَاثَتْ بماءٍ لا رشاءَ لَهُ *** من الأبَاطِحِ في حَافَاتِهِ البُرَكُ

مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ *** ريحٌ خريقٌ لضاحِي مائِهِ حُبُكُ

كَمَا استغاثَ بِسَيءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ *** خَافَ العُيُونَ ولمْ يُنظَرْ بِه الحِشَكُ{[17176]}

فدلَّ هذا على أنَّهُ يتعدَّى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره .

فصل

الاستغاثةُ : طلبُ الغَوْث ، وهو النَّصرُ والعونُ ، وقيل : الاستغاثةُ : سدُّ الخَلَّةِ وقتَ الحاجةِ ، وقيل : هي الاستجارةُ ، ويقالُ : غَوْثٌ ، وغواثٌ ، والغَيْث من المطرِ ، والغَوْثُ من النُّصرةِ ، فعلى هذا يكون " اسْتَغَاثَ " مشتركاً بينهما ، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل ، فيقال : اسْتَغثْتُهُ فأغاثني من الغَوث ، وغَاثَني من الغَيْث ، وفي هذه الاستغاثَةُ قولان :

الأول : أنَّ هذه الاستغاثة كانت من الرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام - .

قال ابن عبَّاسٍ : حدّثني عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - قال : " لمَّا كان يوم بدرٍ نظر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف وإلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، واستقبل القبلة ، ومد يده ، فجعل يهتف بربّه : " اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي ما وعدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إنْ تُهلِكْ هذه العصابة لا تُعْبَدُ في الأرضِ " فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤهُ عن منكبه ، وردَّه أبو بكر ثمَّ التزمه ، ثم قال : كفاكَ يا نبيَّ اللَّهِ مناشَدَتكَ ربَّك ، فإنَّه سَيُنْجِزُ لك ما وعدكَ " ؛ فأنزل اللَّهُ الآية ، ولما اصطفّ القومُ قال أبُو جهلٍ : اللَّهُمَّ أولانا بالحقَّ فانْصُرهُ{[17177]} .

الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين ؛ لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم ، بل خوفهم كان أشَدّ من خوف الرسول ، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا وتضرع ، والمؤمنون كانوا يُؤمِّنونَ على دعائه .

قوله : " أنِّي " العامةُ على فتح الهمزةِ بتقدير حذف حرف الجرّ ، أي : فاستجاب بأني .

وقرأ عيسى{[17178]} بن عمر ، وتروى عن أبي عمرو أيضاً " إنِّي " بكسرها ، وفيها مذهبان ، مذهب البصريين : أنَّهُ على إضمار القول ، أي : فقال : إني ممدُّكم .

ومذهب الكوفيين : أنَّها مَحكيَّةٌ ب " اسْتَجَابَ " إجراءً له مُجْرَى القولِ ؛ لأنَّه بمعناه .

قوله : " بألفٍ " العامَّةُ على التَّوحيدِ ، وقرأ الجحدريُّ{[17179]} " بآلفٍ " بزنة " أفْلُسِ " وعنه أيضاً ، وعن السدي " بآلاف " بزنة : أحْمَال " ، وفي الجمع بين القراءتين ، وقراءة الجمهور أن تحمل قراءةُ الجمهورِ على أنَّ المرادَ ب : " بالألْفِ هم الوجوه ، وباقيهم كالأتباع لهم ، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ، ونصَّ عليهم في هاتين القراءتينِ ، أو تحمل الألف على من قاتل من الملائكة دون من لم يقاتل ، فلا تَنَافِي حينئذٍ بين القراءاتِ .

قوله : " مُردفينَ " قرأ نافع{[17180]} ، ويروى عن قنبل أيضاً : " مُردَفينَ " بفتح الدَّال ، والباقون{[17181]} بكسرها ، وهما واضحتان ؛ لأنه يُروى أنه كان وراء كلّ ملكٍ رديفٌ له ، فقراءة الفتحِ تُشعر بأنَّ غيرهم أردفهم ، لركوبهم خلفهم ، وقراءة الكسر تشعر بأنَّ الراكب خلف صاحبه قد أردفه فصحَّ التَّعبيرُ باسم الفاعل تارة ، وباسم المفعول أخرى ، وجعل أبو البقاءِ مفعول " مُردفين " يعني بالكسر محذَوفاً أي : مُردفين أمثالهم ، وجوَّز أن يكون معنى الإرداف : المجيء بعد الأوائل ، أي : جعلوا ردفاً للأوائل . ويطلب جواب عن كيفيَّةِ الجمع بين هذه الآية ، وآية آل عمران حيث قال هناك " بخَمْسَة " وقال هنا : " بألفٍ " والقصّة واحدة ؟

والجوابُ : أنَّ هذه الألف مردفةٌ لتلك الخمسة ؛ فيكون المجموعُ ستة آلاف ، ويظهر هذا ، ويقوى في قراءة : " مُردِفينَ " بكسر الدَّالِ .

وقد أنكر أبو عبيدٍ : أنْ تكون الملائكةُ أردفت بعضها أي : ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكةِ .

وقال الفارسيُّ : من كسر الدَّال احتمل وجهين :

أحدهما : أن يكونوا مردفين مثلهم كما تقول : أردفتُ زيداً دابتي ، فيكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً ، وحذفُ المفعولِ كثيرُ ، والوجه الآخرُ : أن يكونوا جَاءُوا بعد المسلمين .

وقال الأخفشُ " بنو فلان يَردفوننا ، أي : يَجيئُون بعدنا " .

وقال أبُو عبيدة " مُردفينَ " جاءوا بعدُ ، وردفني ، وأردفني واحد .

قال الفارسي{[17182]} : هذا الوجه كأنه أبْيَنُ لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } فقوله : " مُردفينَ " أي : جائين بعد ، لاستغاثتكم ، ومن فتح الدَّال فهم مُردفُون على أرْدِفُوا الناسَ ، أي : أنْزِلُوا بعدهم .

وقرأ بعض المكيين{[17183]} فيما حكاه الخليلُ : " مُردِّفينَ " بفتح الرَّاء وكسر الدَّالِ مشدَّدة ، والأصلُ : " مُرتدفينَ " فأدغم .

وقال أبو البقاءِ : إنَّ هذه القراءة مأخوذةٌ من " رَدَّفَ " بتشديد الدَّال على التكثير وإنَّ التضعيف بدلٌ من الهمزة ك : " أفْرحتَهُ وفرَّحْته " .

وجوَّز الخليلُ بنُ أحمد : ضمَّ الراءِ إتباعاً لضم الميم ، كقولهم : " مُخُضِم " بضم الخاءِ ، وقد قرئ{[17184]} بها شذوذاً .

وقرئ " مُرِدِّفين " {[17185]} بكسر الرَّاءِ وتشديد الدَّالِ مكسورة ، وكسر الراء يحتمل وجهين : إمَّا لالتقاءِ الساكنين ، وإمَّا للإتباع .

قال ابنُ عطيَّة : " ويجوزُ على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للرَّاءِ ، ولا أحفظه قراءة " .

قال شهابُ الدِّين : وكذلك الفتحة في " مُردِّفينَ " في القراءة التي حكاها الخليلُ تحتمل وجهين :

أظهرهما : أنَّها حركةُ نقلٍ من التَّاء - حين قصد إدغامها - إلى الرَّاءِ .

والثاني : أنَّها فُتِحَتْ تخفيفاً وإن كان الأصلُ الكسر على أصل التقاء السَّاكنين ، كما قد قرئ به ، وقرئ " مِرِدِّفين " {[17186]} بكسر الميم ، إتباعاً لكسرةِ الرَّاءِ .

و " الإرداف " الإتباع ، والإركاب ، وراءك .

وقال الزَّجَّاجُ{[17187]} : " أردفْتُ الرَّجُلَ إذا جئت بعده " .

ومنه : { تَتْبَعُهَا الرادفة } [ النازعات : 7 ] ويقال : رَدِف ، وأرْدَفَ .

واختلف اللغويون : فقيل هما بمعنى واحد ، وهو قول ابن الأعرابي نقله عنه ثعلب .

وقولُ أبي زيْد نقله عنه أبو عبيدٍ ، قال : يقال : ردفْتُ الرَّجُلَ وأردفتُهُ ، إذا ركِبْتُ خَلْفَهُ ؛ وأنشد : [ الوافر ]

إذَا الجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا *** ظَنَنْتُ بآل فَاطِمَةَ الظُّنُونَا{[17188]}

أي : جاءت على رِدْفِها ، وقيل : بينهما فرقٌ فقال الزَّجَّاجُ : " يقال : رَدِفْتُ الرَّجل إذا ركبتُ خلفه ، وأرْدَفتُه أركبته خَلْفِي " . وهذا يُناسبُ قول مَنْ يُقدِّر مفعولاً في : " مُرْدِفين " بكسر الدَّال وأرْدَفْتُه إذا جئتَ بعده أيضاً فصار " أرْدَفَ " على هذا مشتركاً بين معنين .

وقال شمر : " رَدِفْتُ وأرْدَفْتُ إذَا فَعَلْتَ ذلك بنفسكَ ، فأمَّا إذَا فعلتهما بغيركَ فأرْدَفْتُ لا غير " .

وقوله : " مُرْدَفينَ " بفتح الدَّال فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّهُ صفةٌ ل " ألْف " أي : أرْدَفَ بعضهم لبعض ، والثاني : أنَّه حالٌ من ضمير المخاطبين في ممدكم .

قال ابن عطية{[17189]} : " ويحتمل أن يراد بالمُرْدَفين : المؤمنون ، أي : أرْدِفُوا بالملائكة " .

وهذا نصٌّ فيما ذكر من الوجه الثاني .

وقال الزمخشري : وقرئ{[17190]} " مُرْدفين " بكسر الدَّال وفتحها من قولك : رَدِفه ، إذا تبعه ، ومنه قوله تعالى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أي : ردفكم ، وأرْدَفْتُه إيَّاه : إذا تَبِعْتَه ، ويقال : أرْدَفته كقولك ، اتَّبَعْته : إذا جِئْتَ بعده ، ولا يخلُو المكسورُ الدَّالِ من أن يكون بمعنى : مُتْبِعِين ، أو مُتَّبِعين .

فإن كان بمعنى مُتْبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعين بعضهم بعضاً ، أو مُتْبِعِين بعضهم لبعض ، أي بمعنى مُتْبِعِين إياهم المؤمنين ، بمعنى يتقدَّمونهم فيتبعونهم أنفسهم ، أو مُتْبِعين لهم يُشيِّعُونهم ويُقدِّمُونهُم بين أيديهم ، وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظِهم أو بمعنى مُتْبِعِين أنفسهم ملائكة آخرين ، أو متبعين غيرهم من الملائكة ، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران { بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ] { بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .

ومن قرأ " مُرْدَفين " بالفتح فهو بمعنى مُتْبعينَ أو مُتَّبعينَ .

وهذا الكلامُ على طوله ، شرحُهُ أنَّ " أتْبع " بالتخفيف ، يتعدَّى إلى مفعولين ، و " اتَّبَع " بالتَّشديد ، يتعدى لواحدٍ ، و " أردف " قد جاء بمعناهما ، ومفعوله أو مفعولاه ، محذوفٌ ، لفهم المعنى ، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به ، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان عابَ عليه قوله : " مُتْبِعين إيَّاهم المؤمنين " .

وقال : " هذا ليس من مواضعِ فصل الضميرِ ، بل ممَّا يتصل ، وتُحْذف له النُّونُ ، لا يقال : هؤلاء كاسون إيَّاك ثوباً بل : كاسوك ، فتصحيحه أن يقول : متبعيهم المؤمنين ، أو متبعين أنفسهم المؤمنين " .


[17176]:الأبيات لزهير ينظر: ديوانه (175-177) والبحر المحيط 4/459-460 والدر المصون 2/398. والدر اللقيط 4/465 والبيت الأول ينظر: الألوسي 9/172 وحاشية الشهاب 4/255، واللسان (برك) والتهذيب 10/229 (برك) والبيت الثاني في اللسان (حبك) والمحتسب 2/287، والبيت الثالث في الخصائص 2/334 واللسان (حشك)، والدر المصون 3/398.
[17177]:أخرجه أحمد (1/30، 32) ومسلم (3/1383-1384) كتاب الجهاد والسير: باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر حديث (58/1763) والترمذي (5/251-252) كتاب التفسير: باب سورة الأنفال حديث (3081) وأبو داود (2/68) رقم (2690) والطبري في "تفسيره" (6/188) وأبو نعيم في "دلائل النبوة" ( ص357-358) والبيهقي في "الدلائل" (3/51-52) من طريق أبي زميل عن ابن عباس عن عمر به، وقال الترميذي : هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/308) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي عوانة وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه.
[17178]:ورويت عن أبي عمرو كما في الكشاف 2/201، والمحرر الوجيز 2/504، والبحر المحيط 4/460، والدر المصون 3/398.
[17179]:ينظر: المحرر الوجيز 2/504، والبحر المحيط 4/460، والدر المصون 3/398.
[17180]:ينظر: السبعة (304) الحجة 1/124، إتحاف 2/77، المحرر الوجيز 2/504، حجة القراءات 307، الكشاف 2/202، إعراب القراءات 1/221، البحر المحيط 4/460، الدر المصون 2/398.
[17181]:المصدر السابق.
[17182]:ينظر: الحجة 2/125.
[17183]:ينظر: تفسير القرطبي 7/370، البحر المحيط 4/460، المحرر الوجيز 2/504، الدر المصون 3/399.
[17184]:ينظر: المحرر الوجيز 2/505، إعراب القراءات 1/221، الدر المصون 3/399.
[17185]:المصدر السابق.
[17186]:ينظر: الدر المصون 3/399.
[17187]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/445.
[17188]:البيت لخزيمة بن مالك أو خزيمة بن نهد ينظر: الطبري 13/415، المحرر الوجيز 8/30، تفسير الماوردي 2/59، التاج (ردف) الدر المصون 3/42.
[17189]:ينظر: المحرر الوجيز 2/504.
[17190]:ينظر: الكشاف 2/201.