التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ} (9)

ثم ساق - سبحانه - بعض مظاهر تدبيره المحكم في هذه الغزوة ، وبعض النعم التي أنعم بها على المؤمنين ، وبعض البشارات التي تقدمت تلك الغزوة أو صاحبتها ، والتى كانت تدل دلالة واضحة على أن النصر سيكون للمسلمين فقال - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ . . عَذَابَ النار } .

قال القرطبى : قوله - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } الاستغاثة : طلب الغوث والنصر ، يقال : غّوث الرجل ، أى : قال واغوثاه ، والاسم الغوث والغواث ، واستغاثنى فلان فأغثته ، والاسم الغياث .

وقوله { مُمِدُّكُمْ } من الإِمداد بمعنى الزيادة والإِغاثة ، وقد جرت عادة القرآن أن يستعمل الإِمداد في الخير ، وأن يستعمل المد في الشر والذم .

قال - تعالى - : { واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } وقال - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } قال - تعالى - : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } وقال - تعالى - : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقوله : { مُرْدِفِينَ } من الإِرداف بمعنى التتابع .

قال الفخر الرازى : قرأ نافع وأبو بكر عن عصام { مُرْدِفِينَ } - بفتح الدال - وقرأ الباقون بكسرها ، والمعنى على الكسر ، أى : ممتابعين يأتى بعضهم في إثر البعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب .

والمعنى على قراءة الفتح ، أى : فعل بهم ذلك ، ومعناه أن الله - تعالى - أردف المسلمين وأمدهم بهم أي جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم .

والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم - وأنتم على أبواب بدر - { تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أى : تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم { فاستجاب لَكُمْ } دعاءكم ، وكان من مظاهر ذلك أن أخبركم على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - بأنى { مُمِدُّكُمْ } أى : معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين ، أى : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أو أن الله - تعالى - جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم .

ويروى الإِمام مسلم عن ابن عباس قال : " حدثنى عمر بن الخطاب قال : كان يوم بدر ، فاستقبل نبى الله - القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه منكبيه .

فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من وراءه ، وقال : يا نبى الله ! ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله - عز وجل - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ } " الآية فأمده الله بالملائكة .

وروى البخارى عن ابن عباس قال : قال النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، " اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال حسبك ، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " " .

وروى سعيد بن منصور عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وتكاثرهم ، وإلى الله فاستقلهم ، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاته : " اللهم لا تودع منى اللهم لا تخذلنى ، اللهم لا تترنى - أي لا تقطعنى عن أهلى وأنصارى - أولا تنقضى شيئاً من عطائك - اللهم أنشدك ما وعدتنى - أى : أستنجزك وعدك " " .

وروى ابن إسحاق في سيرته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتنى .

فإن قيل : إن هذه النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم فلماذا أسندها القرآن إلى المؤمنين ؟

فالجواب : أن المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه - صلى الله عليه وسلم - ويتأسون به في الدعاء ، إلا ان الروايات ذكرت دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو قائد المؤمنين ، وهو الذي يحرص الرواة على نقل دعائه ، أكثر من حرصهم على نقل دعاء غيره من أصحابه .

وقيل : إن الضمير في قوله { تَسْتَغِيثُونَ } للرسول - صلى الله عليه وسلم - وجئ به مجموعا على سبيل التعظيم ، ويعكر على هذا القبل أن السياق بعد ذلك لا يلتئم معه ، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التي أنعم بها - سبحانه - عليهم .

وعبر - سبحانه - بالمضارع { تَسْتَغِيثُونَ } مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية - استحضارا للحال الماضية ، حتى يستمروا على شكرهم لله ، ولذلك عطف عليه . فاستجاب لكم ، بصيغة الماضى مسايرة للواقع .

وكان العطف بالفاء للإِشعار بأن إجابة دعائهم كانت في أعقاب تضرعهم واستغنائهم وهذا من فضل الله عليهم ، ورحمته بهم ، حيث أجارهم من عدوهم ، ونصرهم عليه - مع قلتهم عنه - نصرا مؤزرا .

والسين والتاء في قوله : { تَسْتَغِيثُونَ } للطلب ، أى : تطلبون منه الغوث بالنصر .

فإن قيل : إن الله - تعالى - ذكر هنا انه أمدهم بألف من الملائكة ، وذكر في سورة آل عمران أنه امدهم بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما ؟

فالجواب أن الله - تعالى - أمد المؤمنين بألف من الملائكة في يوم بدر ، كما بين هنا في سورة الأنفال ، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف كما قال - تعالى - في سورة آل عمران : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ . . . }

ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف ، قال - تعالى - { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } وقد صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فورا حين استنفرهم أبو سفيان لإِنقاذ العير . . فكان المدد خمسة آلاف .

واختار ابن جرير أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة في الآيات على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا ، ولا يثبت شئ من ذلك إلا بنص .

وهذا بناء على أن المدد الذي وعد الله به المؤمنين في آيات سورة آل عمران كان خاصاً بغزوة بدر .

أما على الرأى القائل بأن هذا المدد الذي بتلك الآيات كان خاصا بغزوة أحد فلا يكون هناك إشكال بين ما جاء في السورتين .

وقد بسط القول في هذه المسألة الإِمام ابن كثير فقال ما ملخصه :

" اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين :

أحدهما : أن قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } متعلق بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } وهذا قول الحسن والشعبى والربيع بن أنس وغيرهم . . .

فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآيات - التي في سورة آل عمران وبين قوله في سورة الأنفال - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } .

فالجواب : أن التنصيص على الألف هنا ، لا ينافى الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله - تعالى - { مُرْدِفِينَ } بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف آخر مثلهم .

قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف .

والقول الثانى يرى أصحابه أن هذا الوعد - وهو قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } متعلق بقوله - قبل ذلك - { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وذلك يوم احد .

وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، والضحالك ، وغيرهم .

لكن قالوا : لم يحصل الإِمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين يومئذ فروا .

وزاد عكرمة : ولا بالثلاثة الآلاف لقوله - تعالى { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا ملك واحد .