قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ } : فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه منصوب باذكر مضمراً ، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً أي : إنه مقتطعٌ عما قبله . الثاني : أنه منصوب بيحقُّ أي : يحقُّ الحق وقت استغاثتكم . وهو قول ابن جرير . وهو غلط ، لأنَّ " ليحقَّ " مستقبل لأنه منصوب بإضمار " أَنْ " ، و " إذ " ظرف لما مضى ، فكيف يعمل المستقبل في الماضي ؟ الثالث : أنه بدلٌ من " إذ " الأولى ، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء . وكان قد قَدَّموا أن العامل في " إذا " الأولى " اذكر " مقدراً . الرابع : أنه منصوب ب " يعدكم " قاله الحوفي وقَبْلَه الطبري . الخامس : أنه منصوب بقوله " تَوَدُّون " قاله أبو البقاء . وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل .
و " استغاث " يتعدى بنفسه وبالباء . ولم يجئ في القرآن إلا متعدِّياً بنفسه حتى نقم ابن مالك على النحويين قولهم المستغاث له ، أو به ، والمستغاث من أجله . وقد أنشدوا على تَعَدِّيه بالحرف قول الشاعر :
حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له *** من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه *** ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ
كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ *** خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
فدلَّ هذا على أنه يتعدى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره .
قوله : { أَنِّي } العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي : فاستجاب بأني . وقرأ عيسى بن عمر ويُروى عن أبي عمرو أيضاً " إني " بكسرها . وفيها مذهبان : مذهَب البصريين أنه على إضمار القول أي : فقال إني ممدُّكم . ومذهب الكوفيين أنها محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه .
قوله : { بِأَلْفٍ } العامَّة على التوحيد . وقرأ الجحدري : " بآلُفٍ " بزنة أفْلُس . وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال . وفي الجمع بين هاتين القراءتين وقراءة الجمهور : أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه ، وباقيهم كالأتباع لهم ، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم في هاتين القراءتين . أو تُحْمل الألْف على مَنْ قاتَلَ من الملائكة دون مَنْ لم يقاتل فلا تنافِيَ حينئذٍ بين القراءات .
قوله : { مُرْدِفِينَ } قرأ نافع ويُروى عن قنبل أيضاً " مُرْدَفين " بفتح الدال والباقون بكسرها . وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ مَلَكٌ رديفاً له . فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم ، وقراءة الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه ، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل تارةً واسمِ المفعول أخرى . وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ " مُرْدِفين " يعني بالكسر محذوفاً أي : مُرْدِفين أمثالهم . وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد الأوائل أي : جُعِلوا رِدْفاً للأوائل .
ويُطلب جوابٌ عن كيفية الجمع/ بين هذه الآيةِ وآيةِ آل عمران ، حيث قال هناك " بخمسة " ، وقال هنا " بأَلْف " والقصة واحدة . والجواب : أن هذه الألف مُرْدِفَةً لتلك الخمسة فيكون المجموعُ ستةَ آلاف ، ويظهر هذا ويَقُوى في قراءة " مُرْدِفين " بكسر الدال .
وقد أنكر أبو عبيد أن يكون الملائكة أَرْدَفَت بعضها أي : ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكة . وقال الفارسي : " مَنْ كسر الدال احتمل وجهين ، أحدهما : أن يكونوا مُرْدِفين مثلَهم كما تقول : " أَرْدَفْتُ زيداً دابَّتي " فيكون المفعولُ الثاني محذوفاً ، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ . والوجه الآخر : أن يكونوا جاؤوا بعد المسلمين . وقال الأخفش : " بنو فلان يَرْدِفوننا أي : يجيئون بعدنا " ، وقال أبو عبيدة : " مُرْدِفين : جاؤوا بعدُ ، ورَدِفني وأَرْدَفني واحد " . قال الفارسي : " هذا الوجه كأنه أَبْيَنُ لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } ، قولُه " مُرْدِفين " أي جائين بعدُ لاستغاثتِكم . ومَنْ فتح الدال فهم مُرْدَفون على : أُرْدِفوا الناسَ أي : أُنْزِلوا بعدهم " .
وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليل " مُرَدِّفين " بفتحِ الراء وكسرِ الدالِ مشدَّدة ، والأصل : مُرْتَدِفين فأدغم . وقال أبو البقاء : " إن هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بالتشديد الدال على التكثير ، وإن التضعيف بدلٌ من الهمزة كأَفْرَحْتُه وفرَّحته " وجَوَّز الخليلُ بن أحمد ضمَّ الراءِ إتباعاً لضمِّ الميم كقولهم : مُخُضِم بضم الخاء ، وقد قُرِئ بها شذوذاً .
وقُرئ " مُرِدِّفين " بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً . وكسرُ الراء يَحْتمل وجهين : إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع . قال ابن عطية : " ويجوز على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء ، ولا أحفظه قراءة " ، قلت : وكذلك الفتحة في " مُرَدِّفين " في القراءةِ التي حكاها الخليل تحتمل وجهين . أحدهما : وهو الظاهر أنها حركةُ نَقْلٍ من التاء حين قصد إدغامَها إلى الراء . والثاني : أنها فُتِحَتْ تخفيفاً ، وإن كان الأصلُ الكسرَ على أصل التقاء الساكنين كما قد قُرئ به . وقُرِئ " مِرْدِفين " بكسر الميم إتباعاً لكسرة الراء .
والوَجَل : الفَزَعُ . وقيل : استشعار الخوف يُقال منه : وَجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويَيْجِل وَجَلاً ، فهو وَجِل . والشَّوْكَة : السلاح كسِنان الرُّمْح والنَّصْل والسيف ، وأصلها من النبتِ الحديدِ الطَرْفِ كشَوْك السَّعْدان ، يُقال منه : رجلٌ شائكٌ ، فالهمزةُ من واو كقائم ، ويجوز قلبُه بتأخيرِ عينه بعد لامه ، فيقال : " شاكٍ " ، فيصير كغازٍ ، ووزنُه حينئذ فالٍ قال زهير :
لدى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ *** له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ
ويُوصَفُ السِّلاحُ بالشاكي كما يُوصف به الرجل فيُقال : رجلٌ شاكٌ وشاكٍ ، وسلاحٌ شاكٌ وشاكٍ . فأمَّا شاكٌ فصحيحٌ غيرُ معتلٍّ ، وألفُه منقلبةٌ عن عين الكلمة ، ووزنُه في الأصل على فَعِل بكسر العين ، ولكن قُلِبَتْ ألفاً كما قالوا كَبْشٌ صافٌ أي صَوِف ، وكذلك شاكٌ أي شَوِكٌ .
ويُحتمل أن يكونَ محذوفَ العينِ وأصلُه شائك فحُذِفَت العينُ فبقي شاكاً فألفُه زائدةٌ ووزنُه على هذا فال . وأمَّا شاكٍ فمنقوصٌ وطريقتُه بالقلب كما تقدم . ومِنْ وصف السلاح بالشاك قوله :
وأُلْبِسُ مَنْ رضاه في طريقي *** سلاحاً يَذْعَر الأبطال شاكا
فهذا يُحْتمل أن يكونَ محذوفَ العين ، وأن يكون أصله شَوِكاً كصَوِف . ويُقال أيضاً : هو شاكٌّ في السلاح بتشديد الكاف مِنَ الشِكَّة وهي السلاح أجمع ، نقله الهروي والراغب .
والاستغاثة : طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيل : الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة وقت الحاجة . وقيل : هي الاستجارةُ . ويقال : غَوْثٌ وغُواث وغَواث ، والغيث من المطر والغَوْث من النصرة ، فعلى هذا يكونُ " استغاث " مشتركاً بينهما ، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل فيقال : استَغَثْتُه فأغاثني من الغَوْث ، وغاثَني مِن الغَيْث . والإِردافُ : الإِتباع والإِركاب وراءك . قال الزجاج : " أَرْدَفْتُ الرجل إذا جئت بعده " . ومنه { تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } [ النازعات : 7 ] ، ويقال : رَدِف وأَرْدَف . واختلف اللغويون فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو قولُ ابنِ الأعرابي نقله عنه ثعلب ، وقولُ أبي زيد نقله عنه أبو عبيد قال : " يُقال : رَدِفْتُ الرجلَ وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلفَه " ، وأنشد :
إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا *** ظنَنْتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا
أي جَاءَتْ على رِدْفِها . وقيل : بل بينهما فرقٌ ، فقال الزجاج : " يقال : رَدِفْتُ الرجلَ : رَكِبْتُ خلفَه وأَرْدَفْتُه : أركبتُه خلفي " وهذا يناسِبُ قولَ مَنْ يُقَدِّر مفعولاً في " مُرْدِفين " بكسرِ الدال ، وأَرْدَفْتُه " إذا جِئْتَ بعده أيضاً ، فصار أَرْدَفَ على هذا مشتركاً بين معنيين . وقال شمر : " رَدِفْتُ وأَرْدَفْتُ إذا فَعَلْتَ ذلك بنفسك ، فأمَّا إذا فَعَلْتَهما/ بغيرك فَأَرْدَفْتُ لا غير " . وقوله : { مُرْدَفِينَ } بفتح الدالِ فيه وجهان ، أظهرهما : أنه صفةٌ لأَلْف أي أَرْدَف بعضُهم لبعض . والثاني : أنه حالٌ من ضمير المخاطبين في " يمدُّكم " قال ابن عطية : " ويُحتمل أن يُراد بالمُرْدَفين المؤمنون أي : أُرْدِفوا بالملائكة " وهذا نصٌّ فيما ذكرته من الوجه الثاني . وقال الزمخشري : " وقرئ " مُرْدَِفين " بكسر الدال وفتحها مِنْ قولك : رَدِفه إذا تبعه ، ومنه قوله تعالى :
{ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، أي : رَدِفَكم ، وأَرْدَفْتُه إياه إذا تَبِعْتَه ، ويقال : أَرْدَفته كقولك : اتَّبَعْته إذا جئت بعده ، فلا يخلُو المكسورُ الدالِ مِنْ أن يكون بمعنى مُتْبِعين أو مُتَّبِعين . فإن كان بمعنى مُتْبِعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعِيْن بعضَهم بعضاً ، أو مُتْبِعين بعضهم لبعض ، أو بمعنى مُتْبعين إياهم المؤمنين ، بمعنى يتقدَّمونهم فيُتْبعونهم أنفسهم أو مُتْبِعين لهم يُشَيِّعونهم ويُقَدِّمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظهم ، أو بمعنى مُتْبِعين أنفسهم ملائكةً آخرين ، أو متبعين غيرهم من الملائكة . ويعضد هذا الوجهَ قولُه تعالى في سورة آل عمران
{ بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين } [ آل عمران : 124 ] { بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، ومن قرأ " مُرْدَفين " بالفتح فهو بمعنى مُتْبَعين أو مُتَّبَعين " .
قلت : وهذا الكلامُ على طوله شرحُه أنَّ " أَتْبع " بالتخفيف يتعدَّى إلى مفعولين ، و " اتَّبع " بالتشديد يتعدى لواحدٍ ، وأَرْدَف قد جاء بمعناهما ، ومفعولُه أو مفعولاه محذوفٌ لفهم المعنى ، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به . إلا أنَّ الشيخ عابَ عليه قوله " مُتْبِعين إياهم المؤمنين وقال : " هذا ليس من مواضعِ فَصْلِ الضمير بل مما يتصل وتُحْذف له النون ، لا يقال : هم كاسون إياك ثوباً ، بل كاسوك ، فتصحيحه أن يقول : متبعيهم المؤمنين أو مُتْبعين أنفسَهم المؤمنين " .