قوله تعالى : { ولو دخلت عليهم } أي : لو دخلت عليهم المدينة هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم ، وهم الأحزاب ، { من أقطارها } جوانبها ونواحيها جمع قطر ، { ثم سئلوا الفتنة } أي : الشرك ، { لأتوها } لأعطوها ، وقرأ أهل الحجاز لأتوها مقصوراً ، أي : لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام ، { وما تلبثوا بها } أي : ما احتسبوا عن الفتنة ، { إلا يسيراً } ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبةً به أنفسهم ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال الحسن والفراء : وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلاً حتى يهلكوا .
{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة { مِنْ أَقْطَارِهَا } أي : لو دخل الكفار إليها من نواحيها ، واستولوا عليها -لا كان ذلك- { ثُمَّ } سئل هؤلاء { الْفِتْنَة } أي : الانقلاب عن دينهم ، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين { لَآتَوْهَا } أي : لأعطوها مبادرين .
{ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا } أي : ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين ، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء ، يعطونهم ما طلبوا ، ويوافقونهم على كفرهم ، هذه حالهم .
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا } : أنهم لو دَخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة ، وقُطر من أقطارها ، ثم سئلوا الفتنة ، وهي الدخول في الكفر ، لكفروا سريعًا ، وهم لا يحافظون على الإيمان ، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع .
هكذا فسرها قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد ، وابن جرير ، وهذا ذم لهم في غاية الذم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ولو دخلت عليهم المدينة من نواحيها يعني نواحي المدينة {ثم سئلوا الفتنة} يعني الشرك.
{لآتوها} لأعطوها عفوا: لو أن الأحزاب دخلوا المدينة، ثم أمروهم بالشرك لأشركوا.
{وما تلبثوا بها إلا يسيرا}: ما تحسبوا بالشرك إلا قليلا حتى يعطوا طائعين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أقْطارِها" يقول: ولو دخلت المدينة على هؤلاء القائلين "إنّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ""من أقطارها"، يعني: من جوانبها ونواحيها...
وقوله: "ثُمّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ" يقول: ثم سئلوا الرجوع من الإيمان إلى الشرك "لاَتَوْها" يقول: لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا.
وقوله: "وَما تَلَبّثُوا بها إلاّ يَسِيرا" يقول: وما احتبسوا عن إجابتهم إلى الشرك إلاّ يسيرا قليلاً، ولأسرعوا إلى ذلك...
قال ابن زيد، في قوله "وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أقْطارِها" يقول: لو دخلت المدينة عليهم من نواحيها "ثُمّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْها" سئلوا أن يكفروا لكفروا قال: وهؤلاء المنافقون لو دخلت عليهم الجيوش، والذين يريدون قتالهم ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا قال: والفتنة: الكفر، وهي التي يقول الله "والفِتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْلِ" أي الكفر يقول: يحملهم الخوف منهم، وخبث الفتنة التي هم عليها من النفاق على أن يكفروا به.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إنهم يتعللون بإعوار بيوتهم، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤوهم هولاً ورعباً؛ وهؤلاء الأحزاب كما هم، لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم كونوا على المسلمين، لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام. وشدة بغضهم لأهله، وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه.
إشارة إلى أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلا لغرض، فإذا فاته الغرض لا يفعله، كمن يبذل المال لكي لا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله، فقال الله تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا، ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضا، وليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة.
{إلا يسيرا} فإنها تزول وتكون العاقبة للمتقين، ويحتمل أن يكون المراد المدينة أو البيوت أي ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيرا فإن المؤمنين يخرجونهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
عبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} إشارة إلى أنه دخول غلبة {من أقطارها} أي جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب.
ولما كان قصد الفرار مع الإحاطة بالدار، من جميع الأقطار، دون الاستقتال للدفع عن الأهل والمال، بعيداً عن أفعال الرجال؛ عبر بأداة التراخي فقال: {ثم سئلوا} أي من أيّ سائل كان {الفتنة} أي الخروج منها فارّين، وكأنه سماه بها لأنه لما كان أشد الفتنة من حيث أنه لا يخرج الإنسان من بيته إلا الموت أو ما يقاربه كان كأنه لا فتنة سواه.
{لأتوها} أي الفتنة بالخروج فراراً، إجابة لسؤال من سألهم مع غلبة الظن بالدخول على صفة الإحاطة أن لا نجاة، فهم أبداً يعولون على الفرار من غير قتال حماية لذمار او دفعاً لعار، أو ذباً عن أهل أو جار، وهذا المعنى ينتظم قراءة أهل الحجاز بالقصر وغيرهم بالمد، فإن من أجاب إلى الفرار فقد أعطى ما كأنه كان في يده منه غلبة وجبناً وقد جاءه وفعله.
ولما كان هذا عند العرب -مع ما لهم من النجدة والخوف من السبة- لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيده في زيادة تصويره فقال: {وما تلبثوا بها} أي البيوت {إلا يسيراً} فصح بهذا أنهم لا يقصدون إلا الفرار، لا حفظ البيوت من المضار.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويقف السياق عند هذه اللقطة الفنية المصورة لموقف البلبلة والفزع والمراوغة. يقف ليرسم صورة نفسية لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض. صورة نفسية داخلية لوهن العقيدة، وخور القلب، والاستعداد للانسلاخ من الصف بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء، ولا متجملين لشيءذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة؛ ولم تقتحم عليهم بعد. ومهما يكن الكرب والفزع، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع، فاما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها.. (ثم سئلوا الفتنة لآتوها) سراعا غير متلبثين، ولا مترددين (إلا قليلا) من الوقت، أو إلا قليلا منهم يتلبثون شيئا ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفارا! فهي عقيدة واهنة لا تثبت؛ وهو جبن غامر لا يملكون معه مقاومة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة {وما هي بعورة إنْ يريدون إلا فراراً} [الأحزاب: 13] فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم، ومرادهم خذل المسلمين. ولذلك فالدخول في قوله: {ولو دُخِلت عليهم} هو دخول الغزو فيتعين أن يكون ضمير {دُخلت} عائداً إلى مدينة يثرب لا إلى البيوت من قولهم {إن بيوتنا عورة} [الأحزاب: 13]، والمعنى: لو غُزِيت المدينة من جوانبها الخ... والمعنى: لو دَخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها أي مثلاً، لأن الكلام على الفرض والتقدير، وسأل الجيشُ الداخلُ الفريقَ المستأذنين أن يُلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخذيل لخرجوا لذلك القصد مُسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش: إما لأنهم آمنون من أن يلقَوا سوءاً من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون، فهم منهم وإليهم، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم. والاستثناء في قوله {إلا يسيراً} يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من المعلوم أنّ أناسا بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدوّ ومحاربته، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل الله، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.