معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا} (51)

قوله تعالى : { ترجي } أي : تؤخر ، { من تشاء منهن وتؤوي } أي : تضم ، { إليك من تشاء } اختلف المفسرون في معنى الآية : فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجبة عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن . قال أبو رزين ، وابن زيد : نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة ، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ، وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبداً ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ، ويرجي من يشاء ، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة ، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط . واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم ؟ فقال بعضهم : لم يخرج أحداً ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعله الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة . وقيل : أخرج بعضهن . روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقن ، فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فأرجى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن وآوى إليه بعضهن ، وكان ممن آوى إليه : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، فكان يقسم بينهن سواء ، وأرجى منهن خمساً : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية وجويرية ، فكان يقسم لهن ما شاء . وقال مجاهد : ترجي من تشاء منهن يعني : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد . وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء . وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك . وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سلام ، أنبأنا ابن فضيل ، أنبأنا هشام عن أبيه قال : كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل ؟ فلما نزلت : { ترجي من تشاء منهن } قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . قوله عز وجل : { ومن ابتغيت ممن عزلت } أي : طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم ، { فلا جناح عليك } لا إثم عليك ، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها ، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال ، { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن } أي : التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل ، { ويرضين بما آتيتهن } أعطيتهن ، { كلهن } من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء ، { والله يعلم ما في قلوبكم } من أمر النساء والميل إلى بعضهن ، { وكان الله عليماً حليماً } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا} (51)

{ 51 } { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا }

وهذا أيضًا من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به ، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته ، على وجه الوجوب ، وأنه إن فعل ذلك ، فهو تبرع منه ، ومع ذلك ، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء ، ويقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " .

فقال هنا : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } [ أي : تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك ، ولا تبيت عندها ]{[717]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : تضمها وتبيت عندها .

{ و } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ابْتَغَيْتَ } أي : أن تؤويها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [ وقال كثير من المفسرين : إن هذا خاص بالواهبات ، له أن يرجي من يشاء ، ويؤوي من يشاء ، أي : إن شاء قبل من وهبت نفسها له ، وإن شاء لم يقبلها ، واللّه أعلم ]{[718]}

ثم بين الحكمة في ذلك فقال : { ذَلِكَ } أي : التوسعة عليك ، وكون الأمر راجعًا إليك وبيدك ، وكون ما جاء منك إليهن تبرعًا منك { أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجبًا ، ولم تفرط في حق لازم .

{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة ، وعند المزاحمة في الحقوق ، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه ، لتطمئن قلوب زوجاتك .

{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : واسع العلم ، كثير الحلم . ومن علمه ، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم ، وأكثر لأجوركم . ومن حلمه ، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم ، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر .


[717]:- زيادة من ب.
[718]:- زيادة من هامش (ب) وفي بعض الكلمات عدم وضوح وتم تصويبها من طبعة السلفية.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا} (51)

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر{[35]} ، حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه{[36]} عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أنها كانت تُعَيِّر{[37]} النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، قالت : إني أرَى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك{[38]} .

وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة ، عن هشام بن عُرْوَة ، فدل هذا على أن المراد بقوله : { تُرْجِي } أي : تؤخر { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } أي : من الواهبات [ أنفسهن ]{[39]} { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : مَنْ شئت قبلتها ، ومَنْ شئت رددتها ، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك ، إن شئت عُدْتَ فيها فآويتها ؛ ولهذا قال : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } . قال عامر الشعبي في قوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم يُنْكحن بعده ، منهن أم شريك .

وقال آخرون : بل المراد بقوله : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي : من أزواجك ، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن ، فتقدم من شئت ، وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت ، وتترك من شئت .

هكذا يروى عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وأبي رَزين ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، ومع هذا كان ، صلوات الله وسلامه عليه ، يقسم لهن ؛ ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه ، صلوات الله وسلامه عليه ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة .

وقال{[40]} البخاري : حدثنا حبّان بن موسى ، حدثنا عبد الله - هو ابن المبارك - أخبرنا عاصم الأحول ، عن مُعَاذة{[41]} عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، فقلت لها : ما كنت تقولين ؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا{[42]} .

فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من{[43]} ذلك عدم وجوب القسم ، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده ، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم . وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، وفيه جمع بين الأحاديث ؛ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي : إذا علمن أن الله قد وضع عنك{[44]} الحَرَج في القسم ، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك ، واعترفن بمنتك{[45]} عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن .

وقوله : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : من الميل إلى بعضهن دون بعض ، مما لا يمكن دفعه ، كما قال{[46]} الإمام أحمد :

حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " .

ورواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حماد بن سلمة -{[47]} وزاد أبو داود بعد قوله : فلا تلمني {[48]} فيما تملك ولا أملك : يعني القلب . وإسناده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات . ولهذا عقب ذلك بقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } أي : بضمائر السرائر ، { حَلِيمًا } أي : يحلم ويغفر .


[35]:زيادة من ف، أ، والبخاري.
[36]:في ت: "فحمد".
[37]:في ت، أ: "إلى أهل".
[38]:زيادة من أ، و.
[39]:في ت: "كقوله".
[40]:زيادة من ف، أ، والبخاري.
[41]:في ت: "المقصود".
[42]:في أ: "حيسون".
[43]:في أ: "جاوزوا".
[44]:في أ: "أنسابًا".
[45]:في أ: "قتله".
[46]:صحيح البخاري برقم (4726).
[47]:تفسير عبد الرزاق (1/341، 342).
[48]:في ف، أ: "عيينة".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا} (51)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ"؛ فقال بعضهم: عنى بقوله: ترجي: تؤخّر، وبقوله: تؤْوي: تضمّ... عن مجاهد، قوله: "تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ "قال: تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء، "وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ" قال: تردّها إليك...

وقال آخرون: معنى ذلك: تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك، وتمسك من شئت منهنّ فلا تطلق...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تترك نكاح من شئت، وتنكح من شئت من نساء أمتك... وقيل: إن ذلك إنما جعل الله لنبيه حين غار بعضهنّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وطلب بعضهنّ من النفقة زيادة على الذي كان يعطيها، فأمره الله أن يخيرهنّ بين الدار الدنيا والآخرة، وأن يخلي سبيل من اختار الحياة الدنيا وزينتها، ويمسك من اختار الله ورسوله، فلما اخترن الله ورسوله قيل لهنّ: اقررن الآن على الرضا بالله وبرسوله، قَسَم لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يقسم، أو قسم لبعضكنّ، ولم يقسم لبعضكنّ، وفضل بعضكنّ على بعض في النفقة، أو لم يفضل، سوّى بينكنّ، أو لم يسوّ، فإن الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لكم من ذلك شيء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر مع ما جعل الله له من ذلك، يسوّي بينهنّ في القَسم، إلا امرأة منهنّ أراد طلاقها، فرضيت بترك القسم لها...

قال: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممن عزلت": من ابتغى أصابه، ومن عزل لم يصبه، فخيرهنّ بين أن يرضين بهذا، أو يفارقهنّ، فاخترن الله ورسوله، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت. وكان على ذلك صلوات الله عليه، وقد شرط الله له هذا الشرط، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله.

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أحلهنّ له من يشاء، ويُؤوي إليه منهنّ من يشاء، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كنّ في حباله، عندما نزلت هذه الآية دون غيرهنّ ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهنّ. وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: تؤخر من تشاء ممن وهبت نفسها لك، وأحللت لك نكاحها، فلا تقبلها ولا تنكحها، أو ممن هنّ في حبالك، فلا تقربها، وتضمّ إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك، أو أردت من النساء التي أحللت لك نكاحهنّ، فتقبلها أو تنكحها، وممن هي في حبالك فتجامعها إذا شئت، وتتركها إذا شئت بغير قَسْم.

وقوله: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن نكحت من نسائك فجامعت ممن لم تنكح، فعزلته عن الجماع، فلا جناح عليك... عن قتادة، في قوله: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ ممّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ" قال: جميعا هذه في نسائه، إن شاء أتى من شاء منهنّ، ولا جناح عليه...

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن استبدلت ممن أرجيت، فخليت سبيله من نسائك، أو ممن مات منهنّ ممن أحللت لك فلا جناح عليك...

وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من قال: معنى ذلك: ومن ابتغيت إصابته من نسائك ممّنْ عَزَلْتَ عن ذلك منهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ لدلالة قوله: "ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ" على صحة ذلك، لأنه لا معنى لأن تقرّ أعينهنّ إذا هو صلى الله عليه وسلم استبدل بالميتة أو المطلقة منهنّ، إلا أن يعني بذلك: ذلك أدنى أن تقرّ أعين المنكوحة منهنّ، وذلك مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد.

وقوله: "ذَلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ" يقول: هذا الذي جعلت لك يا محمد من إذني لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتي جعلت لك إرجاءهنّ، وتؤوي من تشاء منهنّ، ووضعي عنك الحرج في ابتغائك إصابة من ابتغيت إصابته من نسائك، وعزلك عن ذلك من عزلت منهنّ، أقرب لنسائك أن تقرّ أعينهنّ به ولا يَحْزَنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلهنّ من تفضيل من فضلت من قسم، أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك على غيره من نسائك، إذا هنّ علمن أنه من رضاي منك بذلك، وإذني لك به، وإطلاق مني لا من قِبَلك...

وقوله: "وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ" يقول: والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة يقول: فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وُضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهنّ، ممن عزلت تفضلاً منه عليك بذلك وتكرمة.

"وكانَ اللّهُ عَلِيما" يقول: وكان الله ذا علم بأعمال عباده، وغير ذلك من الأشياء كلها "حَلِيما" يقول: ذا حلم على عباده، أن يعاجل أهل الذنوب منهم بالعقوبة، ولكنه ذو حلم وأناة عنهم، ليتوب من تاب منهم، وينيب من ذنوبه من أناب منهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} فيه وعيدٌ لمن لم ترضَ منهنّ بما دبر الله من ذلك، وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثٌ على تواطؤ قلوبهنّ والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه.

{وَكَانَ الله عَلِيماً} بذات الصدور {حَلِيماً} لا يعاجل بالعقاب.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... لأن سبب هذه الآيات إنما كان تغايراً وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عليه فشقي بذلك، ففسح الله له وأنبهن بهذه الآيات.

{والله يعلم ما في قلوبكم} خبر عام، والإشارة به هنا إلى ما كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص، وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمنون.

{حليماً} صفة تقتضي صفحاً وتأنيساً في هذا المعنى، إذ هي خواطر وفكر لا يملكها الإنسان في الأغلب، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام عدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يمتثل ما أبيح له ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل، غير أن سودة وهبت نوبتها لعائشة تقمناً لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ "أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ اجْعَلْ يَوْمِي مِنْك لِعَائِشَةَ، فَكَانَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا، وَيَوْمَ سَوْدَةَ".

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَيْضًا عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك}، فَقِيلَ لَهَا: مَا كُنْت تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: كُنْت أَقُولُ: إنْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْك أَحَدًا.

وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَدَاخَلُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما} أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن، فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي: من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول:"اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" ورواه أهل السنن الأربعة، من حديث حماد بن سلمة -وزاد أبو داود بعد قوله: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك: يعني القلب. وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

... لما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع، أكد فقال: {كلهن} أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجأتها، لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإِرجاء حقيقته: التأخير إلى وقت مستقبل.

الإِيواء: حقيقته جعل الشيء آوياً، أي راجعاً إلى مكانه؛ ومقابلة الإِرجاء بالإِيواء تقتضي أن الإِرجاء مراد منه ضد الإِيواء أو أن الإِيواء ضد الإِرجاء، وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإِرجاء والإِيواء صريحهما وكنايتهما، ويشمل الإِرجاء الصنف الثالث وهن: بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله...، فالإِرجاء تأخير تزوج مَن يحلّ منهن، والإِيواء العقد على إحداهن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية، وذلك إرجاء العمل بالإِذن فيهن إلى غير أجل معين، وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهَبْن أنفسهن، سواء كان ذلك واقعاً بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة، والتذييل بقوله: {والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً} كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير؛ ففيه ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الإِحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقَيْنَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} لأنهن يشعرن بأن الله عندما جعل الأمر إليك، فإنه جعل لهن ضمانةً كبيرةً في الحصول على الحياة الكريمة الرحيمة، والمعاملة الحسنة، والميزان العادل الذي لن تختار فيه إلا ما يحقق لهن الرضا والطمأنينة وقرّة العين، لأن إنسانية الرسالة في عمق شخصيتك، وروحانية الشعور الرحيم في قلبك، لا تتحركان إلا بالخير كله والإحسان كله والعدل كله.