فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُـٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا} (51)

{ تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } قرئ ترجي مهموزا وغير مهموز ، وهما لغتان والإرجاء التأخير . يقال : أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء } أي تضم إليك . يقال : آواه إليه بالمد ضمه إليه ، وأوى مقصورا أي ضم إليه ، والمعنى : أن الله وسع على رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل الخيار إليه في نسائه ، فيؤخر من شاء منهن ويؤخر نوبتها ويتركها ولا يأتيها من غير طلاق ، ويضم إليه من شاء منهن ويضاجعها ويبيت عندها .

وقد كان القسم واجبا عليه حتى نزلت هذه الآية فارتفع الوجوب وصار الخيار إليه ، وكان ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ، وممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية ، فكان صلى الله عليه وسلم يسوي بين من آوى في القسم ، وكان يقسم لمن أرجاه ما شاء ، هذا قول جمهور المفسرين في معنى الآية ، وهو الذي يناسب ما مضى ، وقد دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره .

قال ابن العربي : هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون فرض عليه تطييبا لنفوسهن ، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي . وقيل : هذه الآية في الواهبات أنفسهن لا في غيرهن من الزوجات قاله الشعبي وغيره ، وقيل : معنى الآية في الطلاق أي : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء .

وقال الحسن : إن المعنى تنكح من شئت من نساء أمتك وتترك نكاح من شئت منهن ، وقد قيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله : لا يحل لك النساء من بعد ، وعن ابن عباس : ترجي أي تؤخر ، وعنه قال : من شئت خليت سبيلها منهن ، ومن أحببت أمسكت منهن .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول : تهب المرأة نفسها . فلما أنزل الله : ترجي من تشاء منهن الآية قلت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك .

وعن أبي رزين قال : هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن : لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك بما شئت فأنزل الله ترجي من تشاء منهن ، يقول : تعزل من تشاء فأرجى منهن نسوة ، وآوى نسوة ، وكان ممن أرجى ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة ، وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما شاء ، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب فكانت قسمته من نفسه وماله بينهن سواء .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية ترجي من تشاء منهن ، فقلت لها ما كنت تقولين ؟ قالت كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني أريد أن لا أوثر عليك أحدا .

{ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } الابتغاء الطلب ، والعزل الإزالة ، والمعنى إن أردت أن تؤوى إليك امرأة ممن قد عزلتهن من القسمة وتضمها إليك { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } في ذلك ، والحاصل أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله يصنع في زوجاته ما شاء من تقديم وتأخير وعزل وإمساك ، وضم من أرجى وإرجاء من ضم إليه ، وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه ونفيا للحرج عنه ، وأصل الجناح الميل ، يقال : جنحت السفينة إذا مالت ، والمعنى لا ميل عليك بلوم ولا عتب فيما فعلت .

{ ذَلِكَ } أي ما تقدم من التفويض إلى مشيئته وهو مبتدأ وخبره قوله { أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي ذلك التخيير والتفويض فوضناك أقرب إلى رضائهن وأطيب لأنفسهن إذ كان من عندنا لأنهن إذا علمن أنه من الله قرت أعينهن ، واطمأنت نفوسهن ، وذهب التغاير وحصل الرضاء . قرئ تقر على البناء للفاعل مسندا إلى أعينهن ، وقرئ بضم التاء من أقرر وفاعله ضمير المخاطب وبنصب أعينهن على المفعولية ، وقرئ على البناء للمفعول ، وقد تقدم بيان معنى قرة العين في سورة مريم .

{ ولا يَحْزَنَّ } لا يحصل معهن حزن بتأثيرك بعضهن دون بعض { وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء وكان يقسم بينهن في القسمة حتى مات ، ولم يستعمل شيئا مما أتيح له ضبطا لنفسه ، وأخذا بالأفضل غير سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنهما .

{ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } من كل ما تضمرونه ومن ذلك ما تضمرونه من أمور النساء والميل إلى بعضهن { وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا } بكل شيء وبما في ضمائركم لا تخفى عليه خافية { حَلِيمًا } عنكم لا يعاجل العصاة بالعقوبة فينبغي أن تتقى محارمه لأن انتقام الحليم وغضبه أمر عظيم .