قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد ابن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالا : " لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه . فكره المؤمنون ذلك وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مهاجرة وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } إلى { ولا هم يحلون لهن } " قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن بهذه الآية : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } إلى قوله : { غفور رحيم } قال عروة : فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاماً يكلمها به ، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله . قال ابن عباس : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه ، وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم -وقال مقاتل : هو صيفي ابن الراهب- في طلبها ، وكان كافراً ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } من دار الكفر إلى دار الإسلام ، { فامتحنوهن } قال ابن عباس : امتحانها : أن تستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ولرسوله . قال : فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فحلفت فلم يردها ، وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن . { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ما أحل الله مؤمنة لكافر ، { وآتوهم } يعني أزواجهن الكفار ، { ما أنفقوا } عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن ، { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن ، أباح الله نكاحهن للمسلمين ، وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ، { ولا تمسكوا } قرأ أبو عمرو ، ويعقوب : بالتشديد ، والآخرون : بالتخفيف ، من الإمساك { بعصم الكوافر } والعصم : جمع عصمة ، وهي ما يعتصم به من العقد والنسب . والكوافر : جمع الكافرة ، نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات ، يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما . قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين : قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة ، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم ، وهما على شركهما ، وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة ابن عبيد الله ، فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ، ففرق الإسلام بينهما ، فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية . قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ، ثم أتى المدينة فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . { واسألوا } أيها المؤمنون ، { ما أنفقتم } أي : إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ، { وليسألوا } يعني : المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم { ما أنفقوا } من المهر ممن تزوجها منكم ، { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } .
{ 10-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .
لما كان صلح الحديبية ، صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ، على أن من جاء منهم إلى المسلمين مسلما ، أنه يرد إلى المشركين ، وكان هذا لفظا عاما ، [ مطلقا ] يدخل في عمومه النساء والرجال ، فأما الرجال فإن الله لم ينه رسوله عن ردهم ، إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميما للصلح الذي هو من أكبر المصالح ، وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة ، أمر الله المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات ، وشكوا في صدق إيمانهن ، أن يمتحنوهن ويختبروهن ، بما يظهر به صدقهن ، من أيمان مغلظة وغيرها ، فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية .
فإن كن بهذا الوصف ، تعين ردهن وفاء بالشرط ، من غير حصول مفسدة ، وإن امتحنوهن ، فوجدن صادقات ، أو علموا ذلك منهن من غير امتحان ، فلا يرجعوهن إلى الكفار ، { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فهذه مفسدة كبيرة في ردهن راعاها الشارع ، وراعى أيضا الوفاء بالشرط ، بأن يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضا عنهن ، ولا جناح حينئذ على المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك ، ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من المهر والنفقة ، وكما أن المسلمة لا تحل للكافر ، فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت على كفرها ، غير أهل الكتاب ، ولهذا قال تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها{[1058]} فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى ، { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ } أيها المؤمنون ، حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار ، فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم ، استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم{[1059]} إلى الكفار ، وفي هذا دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم ، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل ، برضاع أو غيره ، كان عليه ضمان المهر ، وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ } أي : ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبينه لكم يحكم به بينكم{[1060]} { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فيعلم تعالى ، ما يصلح لكم من الأحكام ، ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة{[1061]} .
تقدم في سورة " الفتح " ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فكان فيه : " على ألا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وفي رواية : " على أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وهذا قول عروة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد ، والزهري ، ومقاتل ، والسدي . فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ، وهذا من أحسن أمثلة ذلك ، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله ، عز وجل ، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن عَلِموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن .
وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش ، من المسند الكبير ، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم ، عن محمد بن يحيى الذهلي ، عن يعقوب بن محمد ، عن عبد العزيز بن عمران ، عن مُجَمِّع بن يعقوب ، عن حسين بن أبي لُبانة ، عن عبد الله بن أبي أحمد قال : هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة ، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلماه فيها أن يردها إليهما ، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة ، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين ، وأنزل الله آية الامتحان{[28685]} .
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة عن حُصَين ، عن أبي نصر الأسدي قال : سُئِل ابنُ عباس : كيف كان امتحانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ ؟ قال : كان يمتحنهن : بالله ما خَرجت من بُغض زوج ؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض ؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا ؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله ؟ {[28686]} .
ثم رواه من وجه آخر ، عن الأغر بن الصباح ، به . وكذا رواه البزار من طريقه ، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب{[28687]} .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبد الله{[28688]} ورسوله .
وقال مجاهد : { فَامْتَحِنُوهُنّ } فاسألوهن : عما جاء بهن ؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره ، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن .
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ؟ وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرار من زوجك ؟ فذلك قوله : { فَامْتَحِنُوهُنّ } .
وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله : ما أخرجكن النشوز ؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحِرص عليه ؟ فإذا قلن ذلك قُبِل ذلك منهن .
وقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا .
وقوله : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ؛ ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب ، رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً ، وقال للمسلمين : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا " . ففعلوا ، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة ، رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر ، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صداقًا ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا بن إسحاق ، حدثنا داود بن الحصين ، عن عكرمة عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص [ ابن الربيع ]{[28689]} وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا .
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة{[28690]} . ومنهم من يقول : " بعد سنتين " ، وهو صحيح ؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين . وقال الترمذي : " ليس بإسناده بأس ، ولا نعرف{[28691]} وجه هذا الحديث ، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين . وسمعت عبد بن حميد يقول : سمعت يزيد بن هارون يذكر عن بن إسحاق هذا الحديث ، وحديث ابن الحجاج - يعني ابن أرطأة - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد . فقال يزيد : حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب " .
قلت : وقد رَوَي حديث الحجاج بن أرطأة ، عن عمرو بن شعيب الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجة{[28692]} ، وضعفه الإمام أحمد وغير واحد ، والله أعلم .
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عِدّتها منه ؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم{[28693]} انفسخَ نِكاحُها منه .
وقال آخرون : بل إذا انقضت العدة هي بالخيار ، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ، وحملوا عليه حديث ابن عباس ، والله أعلم .
وقوله : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } يعني : أزواج المهاجرات من المشركين ، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة . قاله ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، والزهري ، وغير واحد .
وقوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني : إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن ، أي : تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك .
وقوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } تحريم من الله ، عز وجل ، على عباده المؤمنين نكاح المشركات ، والاستمرار معهن .
وفي الصحيح ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ومَرْوان بن الحكم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [ فَامْتَحِنُوهُنَّ ] } {[28694]} إلى قوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية{[28695]} .
وقال ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بأسفل الحديبية ، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم ، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية ، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها ، وقال : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال : وإنما حكم الله بينهم بذلك ، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري : طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها معاوية ، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ، وهي أم عُبَيد الله ، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة بن غانم ، رجل من قومه ، وهما على شركهما ، وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروي بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص{[28696]} .
وقوله : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } أي : وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار ، إن ذهبن ، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين .
وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : في الصلح واستثناء النساء منه ، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ لاَ هُنّ حِلّ لّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ وَآتُوهُم مّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ النساء المُوءْمِناتُ مُهاجِراتٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام فامْتَحِنُوهُن وكانت محنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهن إذا قَدِمن مهاجرات ، كما حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن قيس بن الربيع ، عن الأغرّ بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نصر الأسديّ ، قال : سُئل ابن عباس : كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ؟ قال : كان يمتحنهنّ بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الحسن بن عطية ، عن قيس ، قال : أخبرنا الأغر بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس في : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنّ }قال كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفها بالله ما خرجت . . . ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، أن عائشة قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن المؤمنات إلا بالآية ، قال الله : { إذَا جاءَكَ المُوءْمِناتُ يُبايِعْنَكَ على أنْ لا يُشْرِكْنَ باللّهِ شَيْئا ولا . . . ولا . . . } .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنّ بقول الله : { يا أيّها النّبِيّ إذَا جاءَكَ المُوءْمِناتُ يُبايِعْنَكَ . . . }إلى آخر الآية ، قالت عائشة : فمن أقرّ بهذا من المؤمنات ، فقد أقرّ بالمحبة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهنّ قال لهنّ : «انطلقن فقد بايعتكن » ، ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ ، غير أنه بايعهنّ بالكلام قالت عائشة : والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قطّ ، إلا بما أمره الله عزّ وجلّ ، وكان يقول لهنّ إذا أخذ عليهن «قد بايعتكنّ كلاما » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِراتٍ . . . }إلى قوله : { عَلِيمٌ حَكِيم }كان امتحانهنّ أن يشهدن أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { فامْتَحِنُوهُنّ } قال : سلوهنّ ما جاء بهنّ فإن كان جاء بهنّ غضب على أزواجهنّ ، أو سخطة ، أو غيره ، ولم يؤمنّ ، فارجعوهنّ إلى أزواجهنّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { فامْتَحِنُوهُنّ }كانت محنتهنّ أن يستحلفن بالله «ما أخرجكنّ النشوز ، وما أخرجكنّ إلاّ حبّ الإسلام وأهله ، وحِرْصٌ عليه » ، فإذا قلن ذلك قُبل ذلك منهنّ .
ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { فامْتَحِنُوهُنّ }قال : يحلفن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام ، وحبا لله ورسوله .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه أو عكرمة { إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ فامْتَحِنُوهُنّ }قال : يقال : ما جاء بك إلا حبّ الله ، ولا جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك ، فذلك قوله فامْتَحِنُوهُنّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كانت المرأة من المشركين إذا غضبت على زوجها ، وكان بينه وبينها كلام ، قالت : والله لأهاجرنّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال الله عزّ وجلّ : إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِنات مُهاجِرات فامْتَحِنُوهُنّ إن كان الغضب أتى بها فردّوها ، وإن كان الإسلام أتى بها فلا تردّوها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشجّ ، قال : كان امتحانهنّ إنه لم يُخْرِجْكِ إلا الدين .
وقوله : { اللّهُ أعْلَمُ بإيمَانِهِنّ }يقول : الله أعلم بإيمان من جاء من النساء مهاجرات إليكم .
وقوله : { فإنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُوءْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنّ إلى الكُفّارِ }يقول : فإن أقررن عند المحنة بما يصحّ به عقد الإيمان لهنّ ، والدخول في الإسلام ، فلا تردّوهنْ عن ذلك إلى الكفار . وإنما قيل ذلك للمؤمنين ، لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية أن يردّ المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلما ، فأبطل ذلك الشرط في النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات فامتحنّ ، فوجدهنّ المسلمون مؤمنات ، وصحّ ذلك عندهم مما قد ذكرنا قبل ، وأمروا أن لا يردّوهنّ إلى المشركين إذا علم أنهنّ مؤمنات . وقال جل ثناؤه لهم : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُوءْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنّ إلى الكُفّار لاهُنّ حِلّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلّونُ لَهُنّ }يقول : لا المؤمنات حلّ للكفار ولا الكفار يحلون للمؤمنات . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الاَثار . ذكر بعض ما رُوي في ذلك من الأثر :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، قال : دخلت على عُرْوة بن الزّبير ، وهو يكتب كتابا إلى ابن أبي هُنيد صاحب الوليد بن عبد الملك ، وكتب إليه يسأله عن قول الله عزّ وجلّ : { إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ . . . }إلى قوله : { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وكتب إليه عُرْوة بن الزّبير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشا عام الحديبية على أن يردّ عليهم من جاء بغير إذن وليه فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام ، أبى الله أن يُرْدَدْن إلى المشركين ، إذا هنّ امْتَحنّ محنة الإسلام ، فعرفوا أنهنّ إنما جئن رغبة فيه .
وقوله : { وآتُوهُمْ ما أنْفَقُوا }يقول جلّ ثناؤه : وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات إذا علمتموهنّ مؤمنات ، فلم ترجعوهنّ إليهم ما أنفقوا في نكاحهم إياهنّ من الصداق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ . . . }إلى قوله{ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قال : كان امتحانهنّ أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا علموا أن ذلك حقّ منهنّ لم يرجعوهنّ إلى الكفار ، وأعطى بعلها من الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقه الذي أصدقها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، وإذا فررن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين الذين بينهم وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وآتُوهُم ما أنْفَقُوا }وآتُوا أزواجهنّ صدقاتهن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ فامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أعْلَمُ بإيمَانِهِن }حتى بلغ { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }هذا حكم حكمه عزّ وجلّ بين أهل الهدى وأهل الضلالة كنّ إذا فررن من المشركين الذي بينهم وبين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عهد إلى أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فتزوّجوهنّ بعثوا مهورهنّ إلى أزواجهنّ من المشركين الذي بينهم وبين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عهد وإذا فررن من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين الذين بينهم وبين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عهد بعثوا بمهورهنّ إلى أزواجهنّ من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : نزلت عليه وهو بأسفل الحديبية ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم صالحهم أنه من أتاه منهم ردّه إليهم فلما جاءه النساء نزلت عليه هذه الآية ، وأمره أن يردّ الصداق إلى أزواجهن حكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردّوا الصداق إلى أزواجهنّ فقال وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أعْلَمُ بإيمَانِهنّ }كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عاهد من المشركين ومن أهل الكتاب ، فعاهدهم وعاهدوه ، وكان في الشرط أن يردّوا الأموال والنساء ، فكان نبيّ الله إذا فاته أحد من أزواج المؤمنين ، فلحق بالمعاهدة تاركا لدينه مختارا للشرك ، ردّ على زوجها ما أنفق عليها ، وإذا لحق بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم أحد من أزواج المشركين امتحنها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها : «ما أخرجك من قومك ؟ » فإن وجدها خرجت تريد الإسلام قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردّ على زوجها ما أنفق عليها ، وإن وجدت فرّت من زوجها إلى آخر بينها وبينه قرابة ، وهي متمسكة بالشرك ردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها من المشركين .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ فامْتَحِنُوهُنّ . . . } الآية كلها ، قال : لما هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين كان في الشرط الذي شُرط : أن تردّ إلينا من أتاك منا ، ونردّ إليك من أتانا منكم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أتانا مِنْكُمْ فَنرُدّهُ إلَيْكُمُ ، وَمَنْ أتاكُمْ مِنّا فاخْتارَ الكُفْرَ على الإيمَانِ فَلا حاجَةَ لَنا فِيهِمْ » قال : فأبى الله ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم في النساء ، ولم يأبه للرجال ، فقال الله عزّ وجلّ : { إذَا جاءَكُمُ المُوءْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ فامْتَحِنُوهُنّ . . . }إلى قوله : { وآتُوهُمْ ما أنْفَقُوا }أزواجهنّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشجّ ، قال كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين هدنة فيمن فرّ من النساء ، فإذا فرّت المشركة أعطى المسلمون زوجها نفقته عليها وكان المسلمون يفعلون وكان إذا لم يعط هؤلاء ولا هؤلاء أخرج المسلمون للمسلم الذي ذهبت امرأته نفقتها .
وقوله : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَنْكِحُوهُنّ إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ } يقول تعالى ذكره : ولا حرج عليكم أيها المؤمنون أن تنكحوا هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب مفارقات لأزواجهنّ ، وإن كان لهنّ أزواج في دار الحرب إذا علمتموهنّ مؤمنات إذا أنتم أعطيتموهنّ أجورهن ، ويعني بالأجور : الصّدقات . وكان قتادة يقول : كنّ إذا فررن من المشركين الذين بينهم وبين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عهد إلى أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فتزوّجوهنّ ، بعثوا بمهورهنّ إلى أزواجهنّ من المشركين الذين بينهم وبين أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عهد .
حدثنا بذلك بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة .
وكان الزهريّ يقول : إنما أمر الله بردّ صداقهنُ إليهم إذا حُبِسن عنهم وإن هم ردّوا المسلمين على صداق من حبسوا عنهم من نسائهم .
حدثنا بذلك ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ .
حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَنْكِحُوهُنّ }ولها زوج ثمّ ، لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرأتن أرحامهنّ .
وقوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِرِ }يقول جلّ ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تمسكوا إيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأسبابهنّ ، والكوافر : جمع كافرة ، والعصم : جمع عصمة ، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب ، وهذا نهي من الله للمؤمنين عن الإقدام على نكاح النساء المشركات من أهل الأوثان ، وأمر لهم بفراقهنّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاءه نسوة مؤمنات بعد أن كتب كتاب القضية بينه وبين قريش ، فأنزل الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُوءْمِنات مُهاجِرَاتٍ }حتى بلغ{ بعِصَمِ الكَوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له بالشرك ، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : بلغنا أن آية المحنة التي مادّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش من أجل العهد الذي كان بين كفار قريش وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يردّ إلى كفار قريش ما أنفقوا على نسائهم اللاتي يسلمن ويهاجرن ، وبعولتهنّ كفار للعهد الذي كان بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهم ، ولو كانوا حربا ليست بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم مدّة وعقد لم يردّ عليهم شيئا مما أنفقوا ، وحكم الله للمؤمنين على أهل المدّة من الكفار بمثل ذلك ، قال الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُوءْمِنات مُهاجِرَاتٍ }حتى بلغ { وَاللّهُ عَلِيمٌ حِكِيمٌ }فطلق المؤمنون حين أنزلت هذه الآية كلّ امرأة كافرة كانت تحت رجل منهم ، فطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأته ابنة أبي أُمية بن المغيرة من بني مخزوم فتزوّجها معاوية بن أبي سفيان ، وابنة جرول من خزاعة ، فتزوّجها أبو جهم بن حذافة العَدَوِيّ ، وجعل الله ذلك حكما حكم به بين المؤمنين والمشركين في هذه المدة التي كانت .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : وقال الزهريّ : لما نزلت هذه الآية { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُوءْمِنات . . . } إلى قوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِرِ }كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأته قريبة ابنة أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة وأم كلثوم ابنة جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها أبو جهم بن حُذافة بن غانم رجل من قومه ، وهما على شركهما وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو التيمي كانت عنده أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرّق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر ، وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة على دين قومها ، ثم تزوّجها في الاسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس . وكان ممن فرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فحبسها وزوّجها رجلاً من المسلمين أميمة بنت بشر الأنصارية ، ثم إحدى نساء بني أمية بن زيد من أوس الله ، كانت عند ثابت بن الدحداحة ، ففرّت منه ، وهو يومئذ كافر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف أحد بني عمرو بن عوف ، فولدت عبد الله بن سهل .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال الله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِرِ }قال : الزهريّ : فطلق عمر امرأتين كانتا له بمكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِرِ قال : أصحاب محمد أُمروا بطلاق نسائهم كوافر بمكة ، قعدن مع الكفار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِرِ }مشركات العرب اللاتي يأبين الإسلام أُمر أن يُخَلّى سبِيلُهن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِرِ }إذا كفرت المرأة فلا تمسكوها ، خلوها ، وقعت الفرقة بينها وبين زوجها حين كفرت .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { وَلا تُمْسِكُوا }فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والمدينة والكوفة والشأم ، { وَلا تُمْسِكُوا } بتخفيف السين . وقرأ ذلك أبو عمرو «ولاَ تُمْسِكُوا » بتشديدها ، وذكر أنها قراءة الحسن ، واعتبر من قرأ ذلك بالتخفيف ، وإمساك بمعروف .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان ، محكى عن العرب أمسكت به ومسكت ، وتمسّكت به .
وقوله : { وَاسْئَلُوا ما أنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أنْفَقُوا }يقول تعالى ذكره لأزواج اللواتي لحقن من المؤمنين من دار الإسلام بالمشركين إلى مكة من كفار قريش : واسئلوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم فلحقن بالمشركين ما أنفقتم على أزواجكم اللواتي لحقن بهم من الصداق من تزوّجهن منهم ، وليسئلكم المشركون منهم الذين لحق بكم أزواجهم مؤمنات إذا تزوّجن فيكم من تزوّجها منكم ما أنفقوا عليهنّ من الصداق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أقر المؤمنون بحكم الله ، وأدّوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقرّوا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { وَاسْئَلُوا ما أنْفَقْتُمْ وَلْيسْئَلُوا ما أنْفَقوا }قال : ما ذهب من أزواج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكفار ، فليعطهم الكفار صدقاتهنّ ، وليمسكوهن ، وما ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فمثل ذلك في صلح كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين قريش .
وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ }يقول تعالى ذكره : هذا الحكم الذي حكمت بينكم من أمركم أيها المؤمنون بمسألة المشركين ، وما أنفقتم على أزواجكم اللاتي لحقن بهم وأمرهم بمسألتكم مثل ذلك في أزواجهن اللاتي لحقن بكم ، حكم الله بينكم فلا تعتدوه ، فإنه الحقّ الذي لا يسمع غيره ، فانتهى المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر إلى أمر الله وحكمه ، وامتنع المشركون منه وطالبوا الوفاء بالشروط التي كانوا شارطوها بينهم في ذلك الصلح ، وبذلك جاءت الاَثار والأخبار عن أهل السير وغيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : أما المؤمنون فأقرّوا بحكم الله ، وأما المشركون فأبوا أن يقرّوا ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَإنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أزْوَاجِكُمْ إلى الكُفّارِ . . . } الآية .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، قال : قال الله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يحكم بينكم } ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، وردّه الرجال ، وسأل الذي أمره الله أن يسأل من صدقات النساء من حبسوا منهنّ ، وأن يردّوا عليهم مثل الذي يردّون عليهم إن هم فعلوا ، ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، كما ردّ الرجال ، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية أمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا ، وكذلك يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد .
قوله : { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }يقول جلّ ثناؤه : والله ذو علم بما يصلح خلقه وغير ذلك من الأمور ، حكيم في تدبيره إياهم .
أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن ، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن ، فقيل : الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها ، ابتداء ، وقيل : هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب ، والعصم : جمع عصمة : وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية ، وكذلك العصمة في كل شيء ، السبب الذي يعتصم به ، ويعتمد عليه ، وقرأ جمهور السبعة والناس : «تُمسِكوا » بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من أمسك ، وقرأ أبو عمرو{[11051]} وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف «ولا تمسّكوا » من مسك ، بالشد في السين ، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد : «تَمَسَّكوا » بفتح التاء والميم ، وفتح السين وشدها ، وقرأ الحسن : «تَمْسِكوا » بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة .
ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال : سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ، إنه في الرجال والنساء ، فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، لأن كوافر : جمع كافرة ، فقال وايش يمنع من هذا أليس الناس يقولون : طائفة كافرة ، وفرقة كافرة ، فبهت ، وقلت هذا تأييد{[11052]} .