فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

ولما ذكر سبحانه حكم فريقي الكافرين في جواز البر والإقساط للفريق الأول دون الثاني ، ذكر حكم من يظهر الإيمان فقال :

{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات } سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان { مهاجرات } من بين الكفار ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريش يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين ، فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين ، وأمر بامتحانهن فقال : { فامتحنوهن } أي فاختبروهن بالحلف أي هل هن مسلمات حقيقة أو لا .

وقد أخرج البخاري عن " المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا } حتى بلغ { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فطلق عُمَر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك " وأخرجه أيضا من حديثهما بأطول من هذا وعنه : وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعها إليهم حتى أنزل بالله في المؤمنات ما أنزل وقد اختلف فيما كان يمتحنهن به فقيل : كان يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لالتماس دنيا بل حبا لله ولرسوله ورغبة في دينه فإذا حلفت كذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها إليه .

" قال ابن عباس : كان إذا جاءت المرأة النبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ، وبالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت لالتماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله " أخرجه الطبراني وغيره بسند حسن ، وقيل : الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإذا علموا أن ذلك حق منهن لم يرجعن إلى الكفار ، وأعطى بعلها في الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقها الذي أصدقها وأحلهن للمؤمنين إذا آتوهن أجورهن ، قاله ابن عباس ، وقيل : ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ، وهي : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } إلى آخرها .

واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا على قولين ، فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد ، وبه قال الأكثر ، وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص .

{ والله أعلم بإيمانهن } معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه ، ولم يتعبدكم بذلك ، وإنما تعبدكم بامتحانهن ، حتى يظهر لكم ما يدل على صدق دعوتهن في الرغب في الإسلام { فإن علمتموهن مؤمنات } أي علمتم ذلك بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به ، وهو الظن الغالب بظهور الأمارات ، وتسمية الظن علما يؤذن بأن الظن الغالب ، وما يفضي إليه القياس ، جار مجرى العلم ، وصاحبه غير داخل في قوله : { لا تقف ما ليس لك به علم } ، وقال الكرخي : المراد بالعلم الظن ، وسمي علما إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به ، ففي الكلام استعارة تبعية .

{ فلا ترجعوهن إلى الكفار } أي على أزواجهن الكافرين هذا ناسخ لشرط الرد بالنسبة للنساء ، على مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن ، وقال بعضهم : ليس من قبيل النسخ ، وإنما هو من قبيل التخصيص ، أو تقييد المطلق ، لأن العقد أطلق في رد من أسلم فكان ظاهرا في عموم الرجال مع النساء ، فبين الله خروجهن عن عمومه ، ويفرق بين الرجال والنساء بأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت لضعف قلبها ، وقلة هدايتها إلى الخروج منه بإظهار كلمة الكفر ، مع التورية ، وإضمار كلمة الإيمان طمأنينة القلب عليه ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته ، كذا في الخطيب .

{ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } تعليل للنهي عن إرجاعهن ، والتكرير لتأكيد الحرمة ، والجملة الأولى لنفي الحل حالا ، والثانية لنفيه فيما يستقبل من الزمان ، وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر ، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها { وآتوهم } خطاب لولاة الأمور ، والأمر للوجوب ، فيكون منسوخا ، أو للندب كما هو مذهب الشافعي فليس منسوخا ، أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن :{ ما أنفقوا } أي مثل ما أنفقوا عليهن من المهور ، قال الشافعي : وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع بلا عوض ، عن ابن عباس قال : نزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح ، فكان من أسلم من نسائهم تسأل . ما أخرجك ؟ فإن كانت خرجت فرارا من زوجها ، ورغبة عنه ، ردت وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت ، ورد على زوجها مثل ما أنفق ، ووجوب الإيتاء أو ندبه إنما هو في نساء أهل الذمة ، كما مورد الآية ، فإنها وردت في شأن أهل مكة الذين هادنهم صلى الله عليه وسلم ، وأما نساء الحربيين الذين لم بعقد لهم عهد فلا يجب ولا يسن رد مهورهن اتفاقا ، وبه قال قتادة ، والأمر كما قال ، ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات فقال :{ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } بشرطه ، وهو انقضاء العدة فيما إذا كانت المسلمة مدخولا بها ، والولي والشاهدان وبقية شروط الصحة في المدخول بها وغيرها ، لأنهن قد صرن من أهل دينكم ، وإن كان أزواجهن الكفار لم يطلقوهن لانفساخ العقد بالإسلام { إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن ، لأن المهر أجر البضع ، وذلك بعد انقضاء عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب العدة ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا عدة على المهاجرة ، واستدل بهذه الآية والأول أولى ، وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأحمد ، والآية رد لما يتوهم من أن رد المهر إلى أزواجهن الكفار مغن عن تجديد مهر لهن إذا تزوجهن المسلمون ، فالمهر المدفوع للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم إذا تزوجهن ، والمراد بإيتاء المهر التزامه ، وإن لم يدفع بالفعل .

{ ولا تمسكوا بعصم الكوافر } قرأ الجمهور بالتخفيف من الإمساك ، واختارها أبو عبيد لقوله : { فأمسكوهن بمعروف } وقرئ بالتشديد من التمسك وهما سبعيتان ، والعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب ، والمراد هنا عصمة عقد النكاح ، والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب ، أو لحقت بدار الحرب مرتدة ، أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية ، والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين ، قال النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ، وكان الكفار يزوجون المسلمات ، والمسلمون يزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، وهذه خاصة بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب ، وقيل : عامة في جميع الكوافر مخصصة بإخراج الكتابيات منها .

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثني أو كتابي لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدّة ، وقال بعض أهل العلم : يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج ، وهذا إنما هو إذا كانت المرأة مدخولا بها ، وأما إذا كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام ، إذ لا عدة عليها ، عن ابن عباس قال : أسلم عمر بن الخطاب وتأخرت امرأته في المشركين ، فأنزل الله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر .

{ اسألوا ما أنفقتم } أي اطلبوا مهور نساءكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها وليسألوا { ما أنفقوا } من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا ، قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين : إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت : ردوا مهرها على زوجها الكافر ، قال الخطيب : وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالين وأطال سلمان الجمل في بيان ذلك .

{ ذلكم } المذكور من إجماع المهور من الجهتين { حكم الله } وقوله : { يحكم بينكم } مستأنفة أو حالية { والله عليم حكيم } أي بليغ العلم ، لا تخفى عليه خافية ، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله ، قال القرطبي : وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع المسلمين ، ولما نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون : رضينا بحكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله :{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } مما دفعتم إليهم من مهور النساء المسلمات ، وقيل : المعنى وإن انفلت منكم أحد من نسائكم إلى الكفار ، فارتدت المسلمة ، وإليه نحا الزمخشري .