اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [ المشركين ]{[56244]} اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء{[56245]} .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل «مكة » رده إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب .

وقيل : مسافر المخزومي ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية{[56246]} .

وقيل : جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها .

وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ، ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله إخوتها ، وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردها علينا للشرط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كان الشَّرط في الرجال لا في النساء ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية{[56247]} .

وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه فكرهَ المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلماً ، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل ، يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك .

وقيل{[56248]} : إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ ، ففرت منه ، وهو يومئذ كافرٌ ، فتزوَّجها سهيل بن حنيف ، فولدت له عبد الله . قاله زيد بن حبيب ، نقله الماورديّ{[56249]} . وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة{[56250]} .

قوله : { المؤمنات } تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه ؛ أو في الظاهر{[56251]} .

وقرئ «مُهَاجِرَاتٌ »{[56252]} - بالرفع - وخرجت على البدل .

فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظاً أو عموماً{[56253]} :

اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً ؟ ، فقالت طائفة : كان شرط ردهن في عقد الهُدنة صريحاً ، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه ، وبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقرّه الله على خطأ .

وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً ، وإنما أطلق العقد في ردِّهن أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :

أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم .

الثاني : أنهن أرقّ قلوباً ، وأسرع تقلباً منهم ، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم . ومن أسلمت فلا تردوها .

قوله : { فامتحنوهن } .

قيل{[56254]} : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها ، قالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بامتحانهن ، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به .

فقال ابن عباس : كان يمتحنهن بأن يُسْتَخْلَفْنَ بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا لحدث أحدثته ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، وحب الله ورسوله ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }{[56255]} .

وروي عن ابن عباس أيضاً : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله{[56256]} .

وروى معمر عن الزهري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى : { إِذَا جَاءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً }{[56257]} .

خرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .

فصل :

قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشاً من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلماً ، فنسخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن .

فصل :

قال القرطبي{[56258]} : ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلماً ؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، وهذا مذهب الكوفيين ، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك . واحتج الكوفيون بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم ، فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بنصف الدية ]{[56259]} وقال : " أنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مسلمٍ أقَامَ مع مُشركٍ بدارِ الحَرْبِ لا تَراءَى نَاراهُما " قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعيِّ أن هذا الحكم غير منسوخ .

قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [ رجل ]{[56260]} يأمره ، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود{[56261]} .

قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ }هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر الله به .

قاله الزمخشري{[56262]} ، أي{[56263]} : هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر ، وسمَّى الظن الغالب في قوله : { عَلِمْتُمُوهُنَّ } علماً لما بينهما من القرب كما يقع الظَّن موقعه ، وتقدم ذلك في البقرة{[56264]} .

قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }أي : بما يظهرن من الإيمان . وقيل : أي : علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان{[56265]} { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } وقوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تأكيد للأول لتلازمهما ، وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات{[56266]} .

فصل في معنى الآية :

معنى الآية{[56267]} : لم يحل الله مؤمنة لكافر ، وهذا أول دليل على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها .

وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدَّارين .

والصحيح الأول ؛ لأن الله - تعالى - بين العلّة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار .

قوله : { وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ } .

أمر الله - تعالى - إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يردّ على زوجها ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهدِ ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال{[56268]} .

فصل في استحقاق الغرم بالمنع{[56269]} :

ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا ، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع ، وإن كان المسمى خمراً وخنزيراً لم نغرم شيئاً ؛ لأنه لا قيمة له .

وللشافعي في هذه الآية قولان{[56270]} :

أحدهما : أن هذا منسوخ .

قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهُدْنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض ، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة ، ففيه [ قولان ] :

أحدهما : أن يعطى [ زوجها ]{[56271]} العوض لهذه الآية .

والثاني : لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوضَ ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلاً منسوخاً ، وليس عليه عوض ، لأنه لا عوض للباطل .

فصل :

أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ من بيت المالِ الذي لا يتعين له مصرف{[56272]} . وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء{[56273]} . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [ من ] لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يُرَدُّ عليهم الصداق{[56274]} .

قال القرطبي{[56275]} : «والأمر كما قال » .

قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي : في أن تنكحوهن{[56276]} .

وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } يجوز أن يكون ظرفاً محضاً ، وأن يكون شرطاً ، جوابه مقدَّر ، أي : فلا جناح عليكم{[56277]} .

فصل :

ومعنى الآية : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أي : مهورهن ، فأباح الله نكاحهن للمسلمين ؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر ؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكُفَّار .

قال القرطبي{[56278]} : أباح نكاحهنَّ إذا أسلمن ، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة ، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال .

قوله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .

قرأ أبو عمرو في آخرين{[56279]} بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين ، وباقي السبعة - بتخفيفها - من «مسَك ، وأمسك » بمعنى واحد .

يقال : أمسكت الحبل إمساكاً ، ومسَّكته تمسيكاً ، وفي التشديد مبالغة ، والمخفف صالح لها أيضاً{[56280]} .

وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو عمرو{[56281]} ، وابن عامر في رواية عنهما : «تَمَسَّكُوا » - بالفتح في الجميع وتشديد السين - والأصل : «تَتمسَّكُوا » - بتاءين - فحذفت إحداهما .

وعن الحسن{[56282]} أيضاً : «تَمْسِكُوا » مضارع «مَسَك » ثلاثياً .

والعِصَم : جمع عِصْمَة ، والعِصْمَة هاهنا : النِّكاح ، يقول : من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها .

و«الكوافر » جمع «كافرة » ، ك «ضوارب » في «ضاربة » و«صواحب » ، ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال : «الكوافر » يشمل الرجال والنساء .

قال الفارسي : فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلاَّ في النساء جمع كافرة ، فقال أبو علي : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ ، قال أبو عليٍّ : فبهت ، وقلت : هذا تأييد إلهي .

قال شهاب الدين{[56283]} : وإنما أعجب بقوله لكونه معتزلياً ، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفاً للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكوراً ، نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوّة المذكور ، أما أن يقال : طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال ، ويجتمع جمع «فَاعِلَة » فهذا لا يجوز ، وقول الفارسي : «لا يَرَونَ هذا إلا في النِّساءِ » فهذا يصح ولكنه الغالب ، وقد يجمع «فاعل » وصف المذكر العاقل على «فواعل » وهو محفوظ نحو : «فوارس ونواكس » .

فصل في المراد بالآية :

امرأتين ب «مكة » مشركتين : قريبة بنت أبي أمية ، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما ب «مكة » ، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما ، فلما ولي عمر ، قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة ، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك ، فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوَّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها ، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية .

وقال الشعبيُّ : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امرأة أبي العاص بن الربيع ، أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاصِ ب «مكة » مشركاً ، ثم أتى «المدينة » ، فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ، لم يحدث شيئاً .

قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين .

وقال الحسنُ بن عليٍّ : بعد سنتين{[56284]} .

قال أبو عمر : فإن صح هذا ، فلا يخلو من وجهين :

إما أنها لم تحضر حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ }[ البقرة : 228 ] ، يعني عدتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إن عنى به العدة .

قال الزهريُّ في قصة زينب هذه : كانت قبل أن تنزل الفرائض .

وقال قتادةُ : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة ، بقطع العهود بينهم وبين المشركين{[56285]} .

فصل في المراد بالكوافر :

المراد بالكوافر هنا : عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها . وقيل : هي عامَّة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول إذا أسلم وثَنِيّ ، أو مجُوسِيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهو قول بعض أهل العلم ، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .

وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب ، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه ب «مر الظهران » ، ثم رجع إلى «مكة » وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته ، وقالت : [ اقتلوا ]{[56286]} الشيخ الضَّال ، ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقر على نكاحها ، لأن عدتها لم تكن انقضت .

قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده ، فكانا على نكاحها . قال الشافعي رحمه الله : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين ، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، ثم بينت السُّنَّة أن مراد الله من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة{[56287]} . وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين : إذا أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما .

قالوا : ولو كانا حربيين ، فهي امرأته ، حتى تحيض ثلاث حيض ، إذا كانا جميعاً في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب ، والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما . وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها .

وأما غير المدخول بها ، فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما ، ولا عدة عليها ، هكذا يقول مالك رحمه الله في المرأة ترتد وزوجها مسلم : تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح .

وقال الشافعي وأحمد : [ ينظر إلى تمام ]{[56288]} العدة .

[ فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ، فمذهب مالك والشافعي ، وأحمد توقف إلى تمام العدة ، وهو قول مجاهد ]{[56289]} .

وكذلك الوثني تسلم زوجته ، إن أسلم في عدَّتها ، فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، لما ذكر مالك في «الموطأ »{[56290]} .

[ قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر ]{[56291]} .

قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب ، إلاَّ فرقت هِجْرتُهَا بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها ، وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما ، لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدي ، ولم تسلم جدتي ، ففرق بينهما عمر - رضي الله عنه - وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة ، قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة{[56292]} .

قوله : { وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ } .

قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين ، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك إنصافاً وعدلاً بين الحالتين .

قال ابن العربي رحمه الله : كان هذا حكم الله ، مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة{[56293]} . قال الزهريُّ : ولولا هذه الهدنة ، والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية ، لأمسك النساء ، ولم يرد الصَّداق ، وكذلك يفعل بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أُخطر المؤمنون بحكم الله عزَّ وجلَّ وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله ، فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين ، فأنزل الله - عز وجل - { وإن فاتكم شيء أيها المؤمنون } .

قوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي بما ذكر في هذه الآية ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

قوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } . فيه وجهان{[56294]} :

أحدهما : أنه مستأنف لا محلَّ له من الإعراب .

والثاني : أنه حال من : «حكم الله » ، والراجع إما مستتر أي : يحكم هو ، أي : الحكم على المبالغة ، وإما محذوف ، أي : يحكمه ، وهو الظاهر .


[56244]:في أ: الكفار.
[56245]:ينظر: القرطبي 18/41.
[56246]:ينظر المصدر السابق.
[56247]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/306) وعزاه إلى الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف.
[56248]:ينظر: القرطبي 18/41.
[56249]:ينظر: النكت والعيون 5/521.
[56250]:القرطبي: 18/41.
[56251]:ينظر: الدر المصون 6/306.
[56252]:ينظر: البحر المحيط 8/254، والدر المصون 6/306.
[56253]:ينظر: القرطبي 18/41.
[56254]:السابق 18/42.
[56255]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/64) والبزار كما في "مجمع الزوائد" (7/126) والحارث بن أبي أسامة كما في "المطالب العالية" (3/387) رقم (3777) عن ابن عباس وقال الهيثمي (7/126) رواه البزار وفيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري وضعفه غيرهما وبقية رجاله ثقات. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/310) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وقد حسن السيوطي سنده.
[56256]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/64) ومثله ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/308) وعزاه إلى ابن مردويه.
[56257]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/64) عن عائشة.
[56258]:ينظر القرطبي 18/42.
[56259]:سقط من أ.
[56260]:في أ: أحد.
[56261]:زاد في أ: عليه.
[56262]:ينظر: الكشاف 4/517، والدر المصون 6/306.
[56263]:في أ: أن.
[56264]:آية رقم (46).
[56265]:ينظر: القرطبي 18/42.
[56266]:ينظر: الدر المصون 6/306
[56267]:ينظر: القرطبي 18/43.
[56268]:ينظر السابق.
[56269]:السابق.
[56270]:في أ: وجهان.
[56271]:سقط في ب.
[56272]:ينظر: القرطبي 18/43.
[56273]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/43).
[56274]:ينظر المصدر السابق.
[56275]:ينظر القرطبي 18/43.
[56276]:ينظر: الدر المصون 6/306.
[56277]:السابق.
[56278]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/43.
[56279]:ينظر: السبعة 633، والحجة 6/286، وإعراب القراءات 2/360، وحجة القراءات 707، والعنوان 189، وشرح الطيبة 6/51، وشرح شعلة 602، وإتحاف 2/535.
[56280]:ينظر: الدر المصون 6/306.
[56281]:ينظر: المحرر الوجيز 5/298، والبحر المحيط 8/254، والدر المصون 6/306.
[56282]:ينظر: إعراب القراءات 22/360، والسابق.
[56283]:ينظر: الدر المصون6/306.
[56284]:أخرجه أبو داود 1/68 في الطلاق، باب: إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها (2240)، وذكره القرطبي في تفسيره 18/44.
[56285]:ذكره القرطبي في تفسيره (18/44).
[56286]:سقط من أ.
[56287]:ينظر: القرطبي 18/45.
[56288]:في أ: توقف إلى تمام.
[56289]:سقط من أ.
[56290]:ينظر: الموطأ 2/544 في النكاح (45).
[56291]:ينظر: القرطبي 18/45.
[56292]:ينظر: أحكام القرآن 4/788.
[56293]:زاد في أ: أيها المسلمون شيء من أزواجكم إلى الكفار.
[56294]:ينظر: الدر المصون 6/306.