قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [ المشركين ]{[56244]} اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء{[56245]} .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل «مكة » رده إليهم ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب .
وقيل : مسافر المخزومي ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية{[56246]} .
وقيل : جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها .
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ، ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله إخوتها ، وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردها علينا للشرط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كان الشَّرط في الرجال لا في النساء ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية{[56247]} .
وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه فكرهَ المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلماً ، حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل ، يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك .
وقيل{[56248]} : إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ ، ففرت منه ، وهو يومئذ كافرٌ ، فتزوَّجها سهيل بن حنيف ، فولدت له عبد الله . قاله زيد بن حبيب ، نقله الماورديّ{[56249]} . وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة{[56250]} .
قوله : { المؤمنات } تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه ؛ أو في الظاهر{[56251]} .
وقرئ «مُهَاجِرَاتٌ »{[56252]} - بالرفع - وخرجت على البدل .
فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظاً أو عموماً{[56253]} :
اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً ؟ ، فقالت طائفة : كان شرط ردهن في عقد الهُدنة صريحاً ، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه ، وبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقرّه الله على خطأ .
وقالت طائفة : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً ، وإنما أطلق العقد في ردِّهن أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم .
الثاني : أنهن أرقّ قلوباً ، وأسرع تقلباً منهم ، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم . ومن أسلمت فلا تردوها .
قيل{[56254]} : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها ، قالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بامتحانهن ، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به .
فقال ابن عباس : كان يمتحنهن بأن يُسْتَخْلَفْنَ بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا لحدث أحدثته ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، وحب الله ورسوله ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها ، وما أنفق عليها ، ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }{[56255]} .
وروي عن ابن عباس أيضاً : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله{[56256]} .
وروى معمر عن الزهري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى : { إِذَا جَاءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً }{[56257]} .
خرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشاً من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلماً ، فنسخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن .
قال القرطبي{[56258]} : ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلماً ؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز ، وهذا مذهب الكوفيين ، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك . واحتج الكوفيون بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم ، فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بنصف الدية ]{[56259]} وقال : " أنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مسلمٍ أقَامَ مع مُشركٍ بدارِ الحَرْبِ لا تَراءَى نَاراهُما " قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعيِّ أن هذا الحكم غير منسوخ .
قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [ رجل ]{[56260]} يأمره ، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود{[56261]} .
قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ }هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر الله به .
قاله الزمخشري{[56262]} ، أي{[56263]} : هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر ، وسمَّى الظن الغالب في قوله : { عَلِمْتُمُوهُنَّ } علماً لما بينهما من القرب كما يقع الظَّن موقعه ، وتقدم ذلك في البقرة{[56264]} .
قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }أي : بما يظهرن من الإيمان . وقيل : أي : علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان{[56265]} { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } وقوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تأكيد للأول لتلازمهما ، وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات{[56266]} .
معنى الآية{[56267]} : لم يحل الله مؤمنة لكافر ، وهذا أول دليل على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها .
وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدَّارين .
والصحيح الأول ؛ لأن الله - تعالى - بين العلّة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار .
قوله : { وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ } .
أمر الله - تعالى - إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يردّ على زوجها ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهدِ ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر برد المال حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال{[56268]} .
فصل في استحقاق الغرم بالمنع{[56269]} :
ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا ، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع ، وإن كان المسمى خمراً وخنزيراً لم نغرم شيئاً ؛ لأنه لا قيمة له .
وللشافعي في هذه الآية قولان{[56270]} :
قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهُدْنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض ، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة ، ففيه [ قولان ] :
أحدهما : أن يعطى [ زوجها ]{[56271]} العوض لهذه الآية .
والثاني : لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوضَ ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلاً منسوخاً ، وليس عليه عوض ، لأنه لا عوض للباطل .
أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ من بيت المالِ الذي لا يتعين له مصرف{[56272]} . وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء{[56273]} . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [ من ] لا عهد بينه وبين المسلمين ، فلا يُرَدُّ عليهم الصداق{[56274]} .
قال القرطبي{[56275]} : «والأمر كما قال » .
قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي : في أن تنكحوهن{[56276]} .
وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } يجوز أن يكون ظرفاً محضاً ، وأن يكون شرطاً ، جوابه مقدَّر ، أي : فلا جناح عليكم{[56277]} .
ومعنى الآية : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أي : مهورهن ، فأباح الله نكاحهن للمسلمين ؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر ؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكُفَّار .
قال القرطبي{[56278]} : أباح نكاحهنَّ إذا أسلمن ، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة ، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال .
قوله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
قرأ أبو عمرو في آخرين{[56279]} بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين ، وباقي السبعة - بتخفيفها - من «مسَك ، وأمسك » بمعنى واحد .
يقال : أمسكت الحبل إمساكاً ، ومسَّكته تمسيكاً ، وفي التشديد مبالغة ، والمخفف صالح لها أيضاً{[56280]} .
وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو عمرو{[56281]} ، وابن عامر في رواية عنهما : «تَمَسَّكُوا » - بالفتح في الجميع وتشديد السين - والأصل : «تَتمسَّكُوا » - بتاءين - فحذفت إحداهما .
وعن الحسن{[56282]} أيضاً : «تَمْسِكُوا » مضارع «مَسَك » ثلاثياً .
والعِصَم : جمع عِصْمَة ، والعِصْمَة هاهنا : النِّكاح ، يقول : من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها .
و«الكوافر » جمع «كافرة » ، ك «ضوارب » في «ضاربة » و«صواحب » ، ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال : «الكوافر » يشمل الرجال والنساء .
قال الفارسي : فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلاَّ في النساء جمع كافرة ، فقال أبو علي : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ؟ ، قال أبو عليٍّ : فبهت ، وقلت : هذا تأييد إلهي .
قال شهاب الدين{[56283]} : وإنما أعجب بقوله لكونه معتزلياً ، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفاً للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكوراً ، نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوّة المذكور ، أما أن يقال : طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال ، ويجتمع جمع «فَاعِلَة » فهذا لا يجوز ، وقول الفارسي : «لا يَرَونَ هذا إلا في النِّساءِ » فهذا يصح ولكنه الغالب ، وقد يجمع «فاعل » وصف المذكر العاقل على «فواعل » وهو محفوظ نحو : «فوارس ونواكس » .
امرأتين ب «مكة » مشركتين : قريبة بنت أبي أمية ، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما ب «مكة » ، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما ، فلما ولي عمر ، قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة ، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك ، فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوَّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها ، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية .
وقال الشعبيُّ : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امرأة أبي العاص بن الربيع ، أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاصِ ب «مكة » مشركاً ، ثم أتى «المدينة » ، فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما : رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ، لم يحدث شيئاً .
قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين .
وقال الحسنُ بن عليٍّ : بعد سنتين{[56284]} .
قال أبو عمر : فإن صح هذا ، فلا يخلو من وجهين :
إما أنها لم تحضر حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ }[ البقرة : 228 ] ، يعني عدتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إن عنى به العدة .
قال الزهريُّ في قصة زينب هذه : كانت قبل أن تنزل الفرائض .
وقال قتادةُ : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة ، بقطع العهود بينهم وبين المشركين{[56285]} .
المراد بالكوافر هنا : عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها . وقيل : هي عامَّة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول إذا أسلم وثَنِيّ ، أو مجُوسِيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهو قول بعض أهل العلم ، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب ، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه ب «مر الظهران » ، ثم رجع إلى «مكة » وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته ، وقالت : [ اقتلوا ]{[56286]} الشيخ الضَّال ، ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقر على نكاحها ، لأن عدتها لم تكن انقضت .
قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده ، فكانا على نكاحها . قال الشافعي رحمه الله : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين ، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، ثم بينت السُّنَّة أن مراد الله من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة{[56287]} . وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين : إذا أسلمت المرأة ، عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما .
قالوا : ولو كانا حربيين ، فهي امرأته ، حتى تحيض ثلاث حيض ، إذا كانا جميعاً في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب ، والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما . وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها .
وأما غير المدخول بها ، فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما ، ولا عدة عليها ، هكذا يقول مالك رحمه الله في المرأة ترتد وزوجها مسلم : تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } ، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح .
وقال الشافعي وأحمد : [ ينظر إلى تمام ]{[56288]} العدة .
[ فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ، فمذهب مالك والشافعي ، وأحمد توقف إلى تمام العدة ، وهو قول مجاهد ]{[56289]} .
وكذلك الوثني تسلم زوجته ، إن أسلم في عدَّتها ، فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، لما ذكر مالك في «الموطأ »{[56290]} .
[ قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر ]{[56291]} .
قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب ، إلاَّ فرقت هِجْرتُهَا بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها ، وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما ، لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدي ، ولم تسلم جدتي ، ففرق بينهما عمر - رضي الله عنه - وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة ، قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة{[56292]} .
قوله : { وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ } .
قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين ، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك إنصافاً وعدلاً بين الحالتين .
قال ابن العربي رحمه الله : كان هذا حكم الله ، مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة{[56293]} . قال الزهريُّ : ولولا هذه الهدنة ، والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية ، لأمسك النساء ، ولم يرد الصَّداق ، وكذلك يفعل بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أُخطر المؤمنون بحكم الله عزَّ وجلَّ وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله ، فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين ، فأنزل الله - عز وجل - { وإن فاتكم شيء أيها المؤمنون } .
قوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي بما ذكر في هذه الآية ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } . فيه وجهان{[56294]} :
أحدهما : أنه مستأنف لا محلَّ له من الإعراب .
والثاني : أنه حال من : «حكم الله » ، والراجع إما مستتر أي : يحكم هو ، أي : الحكم على المبالغة ، وإما محذوف ، أي : يحكمه ، وهو الظاهر .