ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي : أقرّوا بالإيمان { إذا جاءكم المؤمنات } أي : بأنفسهن { مهاجرات } أي : من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية { فامتحنوهنّ } أي : بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام ، لا بغضاً في أزواجهن الكفار ، ولا عشقاً لرجال من المسلمين . كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفهنّ .
قيل : إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت : سأهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ { الله } أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { أعلم } أي : منكم ومن أنفسهنّ { بإيمانهنّ } هل هو كائن ، أم لا على وجه الرسوخ ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد ، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس { فإن علمتموهنّ مؤمنات } أي : العلم الممكن لكم ، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره { فلا ترجعوهنّ } أي : بوجه من الوجوه { إلى الكفار } وإن كانوا أزواجاً . قال ابن عباس : لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافراً وكان صيفي بن الراهب ، وقيل : مسافر المخزومي فقال : يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك ، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية . وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء أهلها يسألونه أن يردّها ، وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردّها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم كان الشرط في الرجال لا في النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية » . وعن عروة قال كان مما اشترط سهل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه ، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهل إلا ذلك ، فكاتبه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدّة ، وإن كان مسلماً حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل ، وهذا يومي إلى أنّ الشرط في ردّ النساء نسخ بذلك ، وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن . وقال بعض العلماء : كله منسوخ بالقرآن ، وقالت طائفة : لم يشترط ردّهنّ في العقد لفظاً ، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم فكان ظاهر العموم اشتماله عليهنّ مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهنّ عن عمومه وفرق بينهنّ وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهنّ ذوات فروج فحرمن عليهنّ ، الثاني : أنهنّ أرق قلوباً وأسرع تقلباً منهم ، فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم { لا هنّ } أي : المؤمنات { حلّ } أي : موضع حلّ ثابت { لهم } أي : الكفار باستمتاع ، ولا غيره . وقوله تعالى : { ولا هم } أي : رجال الكفار { يحلون لهنّ } أي : المؤمنات تأكيد للأوّل لتلازمهما . وقال البيضاوي : والتكرير للمطابقة والمبالغة ، والأولى لحصول الفرقة ، والثانية للمنع عن الاستئناف .
وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين ، وهنّ مؤمنات . والمعنى : لم يحل الله تعالى مؤمنة لكافر في حال من الأحوال ، وهذا أدل دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها . وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين ، والصحيح كما قال ابن عادل : الأول لأنّ الله تعالى بين العلة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار .
ولما نهى عن الردّ وعلله أمر بما قدم من الأقساط إليهم فقال تعالى : { وآتوهم } أي : أعطوا الأزواج { ما أنفقوا } أي : عليهنّ من المهور ، فإنّ المهر في نظير أصل العشرة ودوامها ، وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسارتان الزوجية والمالية وأما الكسوة والنفقة فأنهما لما يتجدّد من الزمان .
تنبيه : أمر الله تعالى برد ما أنفقوا إلى الأزواج ، وإنّ المخاطب بهذا الإمام . وهل يجب ذلك أو يندب ؟ ظاهرة الآية الوجوب ، ولكن رجح الندب وعليه الشافعي ، لأنّ البضع ليس بمال فلا يشمله الأمان كما لا يشمل زوجية ، والآية وإن كان ظاهرها الوجوب محتملة للندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل وقال مقاتل : يردّ المهر للذي يتزوّجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء . وقال قتادة : الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل الذمّة ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد عليهم الصداق . قال القرطبي : والأمر كما قال :{ ولا جناح } أي : حرج وميل { عليكم } يا أيها المشرفون بالخطاب { أن تنكحوهنّ } أي : تجدّدوا زواجكم بهنّ بعد الاستبراء ، وإن كان أزواجهنّ من الكفار لم يطلقوهنّ لزوال العلق عنهنّ لأنّ الإسلام فرق بينهم ، قال الله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } [ النساء : 141 ] .
ولما كان قد أمر برد مهور الكفار فكان ربما ظنّ أنه مغن عن تجديد مهر لهنّ إذا نكحهنّ المسلم نفى ذلك بقوله : { إذا آتيتموهنّ } أي : لأجل النكاح { أجورهنّ } أي : مهورهنّ ، وفي شرط أثناء المهر في نكاحهنّ إيذان بأن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } جمع عصمة ، وهي هنا عقد النكاح ، أي : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فقد انقطعت عصمتها فلا يكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية ، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة . قال النخعي : المراد بالآية هي المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ، وكان الكفار يتزوّجون المسلمات ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة وأمّ كلثوم بنت عمر والخزاعية أم عبد الله بن المغيرة فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما بمكة فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة فلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية . وقال الشعبي : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ، ثم أتى المدينة وأسلم فردّها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس بالنكاح الأوّل ، ولم يحدث شيئاً . قال محمد بن عمرو في حديث بعد ست سنين ، وقال الحسن بن علي : بعد سنتين ، قال أبو عمر : فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها ، وإما أنّ الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردّهن في ذلك } يعني : في عدّتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه أنه عنى به العدّة قال الزهري في قصة زينب : هذه كانت قبل أن تنزل الفرائض ، وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين .
تنبيه : المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها . وقيل : هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول : إذا أسلم وثني ، أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهو قول بعض أهل العلم منهم مالك والحسن وطاوس وعطاء وعكرمة وقتادة لقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدّة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن الحارث أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه بمرّ الظهران ، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضال ، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأنّ عدتها لم تكن انقضت ، قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما . قال الشافعي : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { بعصم الكوافر } لأنّ نساء المؤمنين محرمات على الكفار كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر الوثنيات ولا المجوسيات لقوله تعالى : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ثم بينت السنة أن مراد الله تعالى من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا إن أسلم الثاني منهما في العدّة .
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافرين الذمّيين : إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام فإن أسلم ، وإلا فرق بينهما ، قالوا : ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعاً في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما ، وقد تقدمّ أنّ اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها .
فأمّا غير المدخول بها فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما إذ لا عدّة عليها ، وكذا يقول مالك في المرأة يرتد زوجها المسلم تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح وقال الشافعي وأحمد : ينتظر بها تمام العدّة ، فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى تمام العدّة ، وهو قول مجاهد ، وكذا الوثني تسلم زوجته إن أسلم في عدّتها فهو أحق بها ، كما أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتهما لما ذكر مالك في الموطأ .
قال بعض العلماء : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر ، قال : ولم يبلغنا أنّ امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها ، إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها . وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدّي ولم تسلم جدّتي ففرق بينهما عمر ، وهو قول طاوس وعطاء والحسن وعكرمة قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة { واسألوا } أي : أيها المؤمنون الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار مرتدّات { ما أنفقتم } أي : من مهور نسائكم { وليسألوا } أي : الكفار { ما أنفقوا } أي : من مهور أزواجهم اللائي أسلمن . قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدّات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين : إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ردّوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالين { ذلكم } أي : الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة تعلق الرتبة عن كل سفيه { حكم الله } أي : الملك الذي له صفات الكمال ، فلا تلحقه شائبة نقص { يحكم } أي : الله إذ حكمه على سبيل المبالغة { بينكم } أي : في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع ، وذلك لأجل الهدنة التي كانت وقعت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهم ، وأمّا قبل الحديبية فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمسك النساء ولا يردّ الصداق { والله } أي : الذي له الإحاطة التامّة { عليم } أي : بالغ العلم لا يخفى عليه شيء { حكيم } أي : فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الأحكام ، فلا يستطيع أحد نقض شيء منها .