ثم ضرب الله تعالى مثلين للحق والباطل ، فقال عز وجل : { أنزل } يعني : الله عز وجل ، { من السماء ماءً } ، يعني المطر ، { فسالت } من ذلك الماء ، { أودية بقدرها } ، أي : في الصغر والكبر ، { فاحتمل السيل } الذي حدث من ذلك الماء ، { زبداً رابياً } ، الزبد : الخبث الذي يظهر على وجه الماء ، وكذلك على وجه القدر ، { رابياً } أي : عاليا مرتفعا فوق الماء فالماء الصافي الباقي هو الحق ، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية هو الباطل . وقيل : قوله { أنزل من السماء ماءً } هذا مثل للقرآن ، والأودية مثل للقلوب ، يريد : ينزل القرآن ، فتحمل منه القلوب على قدر اليقين والعقل والشك والجهل . فهذا أحد المثلين .
والمثل الآخر : قوله عز وجل : { ومما يوقدون عليه في النار } . قرأ حمزة و الكسائي وحفص يوقدون بالياء لقوله تعالى : { ما ينفع الناس } ، ولا مخاطبة هاهنا . وقرأ الآخرون بالتاء { ومما يوقدون } ، أي : ومن الذي توقدون عليه في النار . والإيقاد : جعل النار تحت الشيء ليذوب . { ابتغاء حلية } ، أي : لطلب زينة ، وأراد الذهب والفضة ، لأن الحلية نطلب منهما ، { أو متاع } أي : طلب متاع وهو ما ينتفع به ، وذلك مثل الحديد ، والنحاس ، والرصاص ، والصفر ، تذاب فيتخذ منها الأواني وغيرها مما ينتفع بها ، { زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل } ، أي : إذا أذيب فله أيضا زيد مثل زبد الماء ، فالباقي الصافي من هذه الجواهر مثل الحق ، والزبد الذي لا ينتفع به مثل الباطل . { فأما الزبد } ، الذي علا السيل والفلز ، { فيذهب جفاءً } أي : ضائعا باطلا ، والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد ، والقدر إلى جنباته . يقال : جفا الوادي وأجفا : إذا ألقى غثاءه ، وأجفأت القدر وجفأت : إذا غلت وألقت زبدها ، فإذا سكت لم يبق فيها شيء . معناه : إن الباطل وإن علا في وقت فإنه يضمحل . وقيل : { جفاءً } أي : متفرقا ، يقال : جفأت الريح الغيم إذا فرقته وذهبت به . { وأما ما ينفع الناس } ، يعني : الماء والفلز من الذهب والفضة والصفر والنحاس ، { فيمكث في الأرض } ، أي : يبقى ولا يذهب . { كذلك يضرب الله الأمثال } ، جعل الله تعالى هذا مثلا للحق والباطل ، أي : أن الباطل كالزبد يذهب ويضيع ، والحق كالماء والفلز يبقى في القلوب . وقيل : هذا تسلية للمؤمنين ، يعني : أن أمر المشركين كالزبد يرى في الصورة شيئا وليس له حقيقة ، وأمر المؤمنين كالماء المستقر في مكانه له البقاء والثبات .
{ 17 } { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }
شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح ، بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح ، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد ، بما في المطر من النفع العام الضروري ، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول ، فواد كبير يسع ماء كثيرا ، كقلب كبير يسع علما كثيرا ، وواد صغير يأخذ ماء قليلا ، كقلب صغير ، يسع علما قليلا ، وهكذا .
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها ، بالزبد الذي يعلو الماء ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة .
كذلك الشبهات والشهوات لا يزال القلب يكرهها ، ويجاهدها بالبراهين الصادقة ، والإرادات الجازمة ، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره ، والرغبة فيه ، فالباطل يذهب ويمحقه الحق { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } وقال هنا : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال .
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في اضمحلاله وفنائه ، فقال تعالى : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي : مطرا ، { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي : أخذ كل واد بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء ، وهذا صغير فوسع بقدره ، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها ، فمنها ما يسع علما كثيرا ، ومنها ما لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها ، { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } أي : فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زَبَدٌ عال عليه ، هذا مثل ، وقوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } هذا هو المثل الثاني ، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ } أي : ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدًا ، فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه ، كما يعلو ذلك{[15545]} زبد منه . { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } أي : إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له ، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار ، بل يذهب ويضمحل ؛ ولهذا قال : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } أي : لا ينتفع به ، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح . وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ، لا يرجع{[15546]} منه شيء ، ولا يبقى إلا الماء{[15547]} وذلك الذهب ونحوه ينتفع به ؛ ولهذا قال : { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ } كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] .
قال بعض السلف : كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله تعالى : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }
هذا مثل ضربه الله ، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله . وهو قوله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } [ وهو الشك ]{[15548]} { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ } وهو اليقين ، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار ؛ فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك .
وقال العوفي عن ابن عباس قوله : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودِمْنَة{[15549]} { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت . فجعل ذاك{[15550]} مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له ، ويبقى كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض . وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبَثَه ، ويخرج جيده فينتفع به . كذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة ، وأقيم الناس ، وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق .
وكذلك رُوي في تفسيرها عن مجاهد ، والحسن البصري ، وعطاء ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقد ضرب الله ، سبحانه وتعالى ، في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا ، وهما قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } الآية [ البقرة : 17 ] ، ثم قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } الآية [ البقرة : 19 ] . وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين ، أحدهما : قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } [ النور : 39 ] الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ؛ ولهذا جاء في الصحيحين : " فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون ؟ فيقولون : أيْ رَبَّنا ، عطشنا فاسقنا . فيقال : ألا تردون ؟ فيردون النار فإذا هي كالسراب يَحْطِم بعضها بعضا " .
ثم قال في المثل الآخر : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } الآية [ النور : 40 ] . وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت{[15551]} الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت طائفة منها [ أخرى ]{[15552]} إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من
فَقه في دين الله ونَفَعه الله بما بعثني{[15553]} ونفع به ، فَعَلِم وَعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به " . {[15554]} فهذا مثل مائي ، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مثلي ومثلكم ، كمثل رجل استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله{[15555]} جعل الفراش وهذه{[15556]} الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجُزُهُنَّ ويغلبنه فيقتحمن فيها " . قال : " فذلكم مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحُجزكم عن النار ، هَلُمّ عن النار [ هَلُمّ عن النار ، هَلُمّ ]{[15557]} فتغلبوني فتقتحمون فيها " . وأخرجاه في الصحيحين أيضا{[15558]} فهذا مثل ناري .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ } .
قال أبو جعفر : وهذا مثل ضربه الله للحقّ والباطل والإيمان به والكفر ، يقول تعالى ذكره : مثل الحقّ في ثباته والباطل في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها يقول : فاحتملته الأودية بملئها الكبير بكبره والصغير بصغره ، فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رَابيا يقول : فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء زَبدا عاليا فوق السيل . فهذا أحد مَثَلى الحقّ والباطل ، فالحقّ هو الماء الباقي الذي أنزله الله من السماء ، والزّبَد الذي لا ينتفع به هو الباطل . والمثل الاَخر : وَمِمّا يُوقدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتغاءَ حلْيَةٍ يقول جلّ ثناؤه : ومثل آخر للحقّ والباطل ، مثل فضة أو ذهب يُوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع ، وذلك من النحاس والرصاص والحديد ، يوقَد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول تعالى ذكره : ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زَبَد مثله ، بمعنى : مثل زَبَد السيل لا ينتفع به ويذهب باطلاً ، كما لا ينتفع بزبد السيل ويذهب باطلاً . ورفع «الزبد » بقوله : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ومعنى الكلام : ومما يوقدون عليه في النار زبد مثل زبد السيل في بطول زبده ، وبقاء خالص الذهب والفضة . يقول الله تعالى : كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقّ والباطلَ يقول : كما مثل الله الإيمان والكفر في بطول الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة ، كذلك يمثل الله الحقّ والباطل . فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يقول : فأما الزبد الذي علا السيل ، والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها ، فيذهب بدفع الرياح وقدف الماء به وتعلقه بالأشجار وجوانب الوادي . وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ من الماء والذهب والفضة والرصاص والنحاس ، فالماء يمكث في الأرض فتشربه ، والذهب والفضة تمكث للناس . كذلكَ يَضْرِبُ اللّهَ الأمْثالَ يقول : كما مثل هذا المثل للإيمان والكفر ، كذلك يمثل الأمثال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِها فهذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشكّ فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله : فأمّا الزّبَدُ فَيَدْهَبُ جُفاءً وهو الشكّ ، وأمّا ما ينفعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ وهو اليقين ، كما يجعل الحليّ في النار ، فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشكّ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ بِقَدَرِها فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رَابِيا يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، وللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء فأمّا ما يَنْفَعُ النّاسُ فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت . فجعل ذلك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيىء يضمحلّ عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحقّ جاء من عند الله ، فمن عمل بالحقّ كان له وبقي كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض ، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يجعل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتؤكل خبثه ، فيخرج جيده فينتفع به ، فكذلك يضمحلّ الباطل إذا كان يوم القيامة وأقيم الناس ، وعرضت الأعمال ، فيريغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحقّ بالحقّ ، ثم قال : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ . . . إلى : أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ فقال : ابتغاء حلية الذهب والفضة ، أو متاع الصّفر والحديد . قال : كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد فخلص خالصه ، قال : كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقّ والباطِلَ فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاء وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كذلك بقاء الحقّ لأهله فانتفعوا .
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : أَنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : ما أطاقت ملأها فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رَابِيا قال : انقضَى الكلام ، ثم استقبل فقال : «وَمِمّا تُوقِدُونَ عَلَيْه فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ » قال : المتاع : الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه ، زبد مثله ، قال : خبث ذلك مثل زبد السيل . قال : وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ فَأمّا الزبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً قال : فذلك مثل الحقّ والباطل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، أنه سمعه يقول : فذكر نحوه . وزاد فيه : قال : قال ابن جريج : قوله : فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً قال : جُمودا في الأرض ، وأمّا ما يَنْفَعُ النّاس فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ يعني الماء وهما مَثَلان : مثل الحقّ والباطل .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : زَبَدًا رَابِيا السيل مثل خَبَث الحديد والحلية ، فَيَذْهَبُ جُفاءً جمودا في الأرض ، ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ الحديد والنحاس والرّصاص وأشباهه . وقوله : وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ إنما هما مثلان للحقّ والباطل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : وثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، يزيد أحدهما على صاحبه في قوله : فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : بملئها ، فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رابيا قال : الزبد : السيل ابْتِغاءَ حلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ قال : خبث الحديد والحلية ، فأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهُبُ جُفاءً قال : جمودا في الأرض ، وأمّا ما ينفع الناسُ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ قال : الماء وهما مثلان للحقّ والباطل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الصغير بصغره والكبير بكبره ، فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدا رابِيا أي عاليا ، ومِمّا يُوقدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقّ والباطلَ فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهُب جُفاءً والجفاء : ما يتعلق بالشجر ، وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأرْضِ . هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد ، يقول : كما اضمحلّ هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته ، كذلك يضمحلّ الباطل عن أهله كما اضمحلّ هذا الزبد ، وكما مكث هذا الماء في الأرض ، فأمرعت هذه الأرض ، وأخرجت نباتها ، كذلك يبقى الحقّ لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض ، فأخرج الله به ما أخرج من النبات . قوله : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ . . . الآية ، كما يبقى خالص الذهب والفضة ، حين أدخل النار وذهب خَبَثه ، كذلك يبقى الحقّ لأهله . قوله : أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول : هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به ، فيه منافع : يقول : كما يبقى خالص هذا الحديد وهذا الصفر حين أدخل النار وذهب خبثه ، كذلك يبقى الحقّ لأهله كما بقي خالصهما .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَسالَتْ أوْدِيَة بقَدَرِها الكبير بقدره والصغير بقدره . زَبَدًا رَابيا قال : ربا فوق الماء الزبد . ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ قال : هو الذهب إذا أدخل النار بقي صفوه ونفى ما كان كدره وهذا مثل ضربه اللّهُ . للحقّ والباطل ، فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يتعلق بالشجر فلا يكون شيئا مثل الباطل ، وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ وهذا يخرج النبات ، وهو مثل الحقّ أوْ مَتاعٍ زَبَدُ مِثْلُهُ قال : المتاع : الصّفْر والحديد .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا هَوْذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، قال : بلغني في قوله : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : إنما هو مثل ضربه الله للحقّ والباطل ، فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الصغير على قدره ، والكبير على قدره ، وما بينهما على قدره . فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رَابيا يقول : عظيما ، وحيث استقرّ الماء يذهب الزبد جُفاء فتطير به الريح ، فلا يكون شيئا ، ويبقى صريح الماء الذي ينفع الناس منه شرابهم ونباتهم ومنفعتهم . أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ومثل الزبد كل شيء يوقد عليه في النار الذهب والفضة والنحاس والحديد ، فيذهب خبثه ويبقى ما ينفع في أيديهم ، والخَبَث والزّبَد مثل الباطل ، والذي ينفع الناس مما تحصّل في أيديهم مما ينفعهم المال الذي في أيديهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ قال : هذا مثل ضربه الله للحقّ والباطل . فقرأ : أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَدًا رابِياهذا الزبد لا ينفع ، أو متاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ هذا لا ينفع أيضا ، قال : وبقي الماء في الأرض فنفع الناس ، وبقي الحليُ الذي صلح من هذا ، فانتفع الناس به . فأمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ كذلكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثالَ وقال : هذا مثل ضربه الله للحقّ والباطل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : أوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال : الصغير بصغره ، والكبير بكبره .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء : ضرب الله مثلاً للحقّ والباطل ، فضرب مثل الحقّ كمثل السيل الذي يمكث في الأرض ، وضرب مثل الباطل كمثل الزّبَد الذي لا ينفع الناس .
وعنى بقوله رَابِيا : عاليا منتفخا ، من قولهم : ربا الشيء يرْبُو رُبُوّا فهو راب ، ومنه قيل للنشَز من الأرض كهيئة الأكمة : رابية ومنه قول الله تعالى : اهْتَزّتْ وَرَبَتْ . وقيل للنحاس والرصاص والحديد في هذا الموضع : المتاع ، لأنه يُستمتع به ، وكلّ ما يتمتع به الناس فهو متاع كما قال الشاعر :
تَمَتّعْ يا مُشَعّثُ إنّ شَيْئا *** سَبَقْتَ بهِ المَماتَ هُوَ المَتاعُ
حُدثت عن أبي عبيدة مَعْمَرِ بن المُثَنّى ، قال : قال أبو عمرو بن العلاء ، يقال : قد أجفأتِ القِدرُ ، وذلك إذا غَلَتْ فانصبّ زَبَدُها ، أو سكنت فلا يبقى منه شيء .
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله : فَيَذْهَبُ جُفاءً تَنْشَفُه الأرض ، وقال : يقال : جفا الوادي وأجفى في معنى نَشِف ، وانجفى الوادي : إذا جاء بذلك الغثاء ، وغثى الوادي فهو يَغْثَى غَثْيا وغَثَيانا . وذَكَر عن العرب أنها تقول : جَفَأْتُ القدَر أجْفَؤها : إذا أخرجت جُفاءَها ، وهو الزّبَد الذي يعلوها ، وأجْفَأْتُها إجْفَاءً لغة . قال : وقالوا : جَفَأتُ الرجل جَفْا : صرعته .
وقيل : فَيَذْهَبُ جُفاءً بمعنى جَفْئا ، لأنه مصدر من قول القائل : جَفَأَ الوادي غُثاءه ، فخَرَجَ مَخرَج الاسم وهو مصدر ، كذلك تفعل العرب في مصدر كلّ ما كان من فعل شيء اجتمع بعضه إلى بعض كالقُماش والدّقاق والحُطام والغُثاء ، تخرجه على مذهب الاسم ، كما فعلت ذلك في قولهم : أعطيته عطاء ، بمعنى الإعْطَاء ، ولو أريد من القُماش المصدر على الصحة لقيل : قد قَمَشْته قَمْشا .