بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

ثم ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل ، لأن العرب كانت عادتهم أنهم يوضحون الكلام بالمثل ، وقد أنزل الله تعالى القرآن بلغة العرب ، فأوضح لهم الحق من الباطل بالمثل فقال : { أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } يعني : المطر { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } يعني : سال في الوادي الكبير بقدره ، وفي الوادي الصغير بقدره ، فشبه القرآن بالمطر ، وشبه القلوب بالأودية ، وشبه الهدى بالسيل { فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } يعني : عالياً على الماء .

فشبه الزبد بالباطل يعني : احتملته القلوب على قدر أهوائها باطلاً كبيراً . فكما أن السيل يجمع كل قدر ، كذلك الأهواء تحتمل الباطل ، وكما أن الزبد لا وزن له ، فكذلك الباطل لا ثواب له . فذلك قوله : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء } يعني : يذهب كما جاء . ويقال : { جُفَاء } أي سريعاً . وقال مقاتل : { جُفَاء } أي يابساً ، فلا ينتفع به ، ويقذفه السيل . وقال القتبي : الجفاء ما رمى به الوادي في جنباته . ويقال : جفأت القدر بزبدها إذا ألقيته عنها { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الأرض } يعني : يبقى الماء الصافي . فكذلك الإيمان واليقين ينتفع به أهله في الآخرة ، كما ينتفع بالماء الصافي في الدنيا . والباطل ، لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة .

ثم ضرب مثلاً آخر بالذهب والفضة ، فقال تعالى : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار } من الذهب والفضة { ابتغاء حِلْيَةٍ } يعني : النحاس { حِلْيَةٍ } تلبسونها . يخرج منها الخبث ، ويبقى الذهب والفضة خالصاً .

ثم ضرب مثلاً آخر فقال : { أَوْ متاع زَبَدٌ مّثْلُهُ } يعني : النحاس ، والحديد ، والصفر يزول عنها الخبث ، ويبقى الصفر والحديد خالصاً ، فيتخذ منها المتاع . فهذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد ، كما يضمحل هذا الزبد ، ويبقى خالص الماء ، وخالص الذهب ، والفضة ، والحديد ، والصفر ، فكذلك يضمحل الباطل عن أهله . وكما يمكث الماء في الأرض ، ويخرج نباتها ، وكما يبقى خالص الذهب والفضة حين يدخلان النار ، فكذلك يبقى الحق ، وثوابه لصاحبه . وقال القتبي في قوله : { فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } قال : هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل . يقول : الباطل وإن ظهر على في بعض الأحوال وعلا فلان فإن الله سيمحقه ، ويبطله ، ويجعل العاقبة للحق وأهله ، مثل مطر سال في الأودية بقدرها { فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } أي : عالياً على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق . ومن جواهر الأرض التي تدخل الكير ، توقدون عليها ، بمعنى الذهب والفضة للحلية . { أَوْ متاع } يعني : الشبه ، والحديد ، والآنك ، يكون للآنية له خبث يعلوها مثل زبد الماء . فأما الزبد ، فيذهب جفاء يتعلق بأصول الشجر ، وكنبات الوادي ، وكذلك خبث الفلز يعني : الجوهر يقذفه ، فهذا مثل الباطل . وأما ما ينفع الناس ، وينبت المرعى ، فيمكث في الأرض . فكذلك الصفر من الفلز يبقى صالحاً فهو مثل الحق .

ثم قال : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } على وجه التقديم والتأخير . يعني : هكذا يضرب الله المثل للحق والباطل . ويقال : معناه هكذا يبيّن الحق من الباطل { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الأرض } على معنى التقديم والتأخير ، وقد ذكرناه من قبل { كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } يعني : يبيّن الله الأشباه ، ويوضح الطريق ، ويقيم الحجة .