الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

قوله ( تعالى ) {[36121]} : { أنزل من السماء ماء } إلى قوله { وبيس المهاد }[ 17-18 ] : هذا مثل ضربه الله تعالى { جل ذكره } {[36122]} للحق والباطل ، والإيمان به والكفر {[36123]} .

فالمعنى : مثل الحق في ثباته {[36124]} ، ( والكفر ) {[36125]} في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله ، { فسالت أودية بقدرها }[ 17 ] : ( أي ) فاجتمعت الأودية ، الماء بقدر ملئها الكبير بكبره {[36126]} ، والصغير بصغره {[36127]} .

{ فاحتمل السيل زبدا رابيا }[ 17 ] : أي : ( عاليا على الماء ) {[36128]} .

فهذا أحد {[36129]} مثلي الحق والباطل . فأما النافع {[36130]} / فهو {[36131]} الحق ، والزبد : الرائب {[36132]} الذي لا ينفع هو الباطل {[36133]} .

وتحقيق معنى هذا المثل : أن الماء المنزل مثل للقرآن {[36134]} المنزل {[36135]} .

فالماء يعم نفعه كل أرض طيبة ، والقرآن يعم نفعه كل قلب طيب {[36136]} ، والأودية مثل للقلوب {[36137]} ، لأن الأودية بستكن فيها الماء . كذلك والإيمان والقرآن يستكنان في قلوب المؤمنين . والسيل مثل للأهواء {[36138]} العارضة في القلوب ، لأن الهوى يغلب على القلوب ، كما يغلب السيل {[36139]} بما حمل من الماء وغيره {[36140]} . والزبد مثل للباطل ، وما يستقر من الماء الخالص ( مثل لما يستقر في قلب المؤمن من الإيمان ، فينتفع بذلك كما تنتفع الأرض بما يستقر من الماء الخالص ) {[36141]} فيها . ومثله المثل الثاني : ما يتحصل {[36142]} من جيد {[36143]} الذهب ، والفضة ، والحديد والنحاس مثل لما يستقر {[36144]} في قلب المؤمن من الإيمان {[36145]} .

ثم ضرب مثلا آخر أيضا آخر للحق والباطل {[36146]} ، فقال : { ومما توقدون {[36147]} عليه في النار }[ 19 ] إلى آخر المثل : أي : والحق والباطل كمثل فضة ، أو ذهب ، أو نحاس ، يوقد عليه {[36148]} الناس في النار ، في طلب حلية يتخذونها ، أو متاع . وذلك {[36149]} من النحاس : وهي الأواني التي تتخذ {[36150]} منه ، ( و ) {[36151]} من الرصاص والحديد فيكون له زبدا {[36152]} ، مثل زبد السيل ، وزبده : خبثه الذي لا ينتفع به ، فالذي يصفى {[36153]} من هذه الأشياء هو مثل الحق ينتفع بهما {[36154]} . والخبث {[36155]} مثل الباطل لا ينتفع بهما ، ثم بين لنا ، في أي ( شيء ) {[36156]} ضربت {[36157]} هذه الأمثال فقال :

{ كذلك يضرب الله الحق والباطل }[ 17 ] : يضرب مثل الحق والباطل ، ثم حذف {[36158]} المضاف . ( والحق ) : الإيمان و( الباطل ) : الكفر : وكما {[36159]} أن زبد السيل ، وخبث ما يوقد عليه في النار لا ينتفع به ، كذلك لا ينتفع الكافر بعمله {[36160]} عند حاجته إليه . وكما ينتفع بالماء ، وبما يوقد عليه في النار ، كذلك ينتفع المؤمن بإيمانه عند حاجته إليه .

وقوله : { فيذهب جفاء }[ 17 ] : يذهب بدفع {[36161]} الريح ، وقذف الماء به . فيتعلق في جوانب الوادي ، وبالأشجار . وهو من : أَجْفَأتِ القدر {[36162]} : إذا رمت بزبدها {[36163]} ، وهو الغشاء . فيقول : إن الباطل ، وإن ظهر على الحق في بعض الأشياء وعلا ، فإنه {[36164]} يتمحق {[36165]} ، ويذهب {[36166]} . وتكون العاقبة للحق . كما أن هذا الزبد ، وإن علا ( علا الماء ) {[36167]} ، فإنه يذهب ويتمحق ، وكذلك الخبث من الحديد ، وغيره هو وإن علا {[36168]} فإنه يذهب ويتمحق ، ويطرحه الكير ، ويبقى من الماء وغيره ما ينتفع به . كذلك يبقى الحق ويثبت : هذا ( كله ) {[36169]} معنى قول {[36170]} ابن عباس ، وتفسيره ( رحمة الله عليه ) {[36171]} قال : ( هو مَثَلٌ {[36172]} ضربه الله للناس عند نزول القرآن ، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها . فأما الشك فلا ينفع معه العمل {[36173]} ، وأما اليقين فينتفع به .

( فالزبد ) : الشك في الله ، ( والذي يمكث في الأرض ) : اليقين {[36174]} .

وروي ( عنه ) {[36175]} أنه قال : هو مثل ضرب( ه ) {[36176]} الله للعمل الصالح ، والعمل السوء : فالصالح كالماء الذي يمكث في الأرض ، ينتفع به / الناس كذلك ينتفع أصحاب العمل الصالح به في الآخرة ، وكذلك {[36177]} ما تحت الخبث من الرصاص ، والحديد ، والذهب ينتفع به ، مثل العمل الصالح .

وأما الزبد منها {[36178]} فلا ينتفع به ، كما لا ينتفع أصحاب العمل السوء ( بعملهم ) {[36179]} {[36180]} .

وقرأ رؤبة {[36181]} : ( فيذهب جفالا ) {[36182]} يقال : جفأت {[36183]} الريح السحاب : إذا قطعته ، وأذهبته {[36184]} .


[36121]:ما بين القوسين ساقط من ق.
[36122]:ما بين القوسين ساقط من ط.
[36123]:انظر هذا التوجيه في: المصدر السابق.
[36124]:ق: بيانه.
[36125]:ما بين القوسين ساقط من ط.
[36126]:ط: بكبيره.
[36127]:انظر هذا المعنى في: غريب القرآن 227، وتأويل مشكل القرآن 326 وجامع البيان 16/408 و409. وإعراب النحاس 2/355.
[36128]:انظر هذا التفسير في: غريب القرآن 227، ومشكل القرآن 326، وجامع البيان 16/409، ومعاني الزجاج 3/145.
[36129]:ط: آخر.
[36130]:ق: فالماء المنافع.
[36131]:ق: وهو، ط: هو.
[36132]:ق: الرأي.
[36133]:انظر هذا التفسير في: تفسير مجاهد 406، وجامع البيان 16/409، ومعاني الزجاج 3/146.
[36134]:ق: القرآن.
[36135]:انظر هذا التوجيه في: معاني الفراء 2/61.
[36136]:ق: طيبة.
[36137]:ق: القلوب.
[36138]:ق: الأهواء.
[36139]:ق: السائل.
[36140]:انظر هذا التوجيه في: معاني الفراء 2/62.
[36141]:ما بين القوسين ساقط من ق.
[36142]:ق: يتحمل.
[36143]:ق: خبث.
[36144]:ط: مطموس.
[36145]:انظر هذا التوجيه في: معاني الفراء 2/62.
[36146]:ط: والبطل.
[36147]:ق: وما تقدموا.
[36148]:ط: عليها.
[36149]:ق: فذلك.
[36150]:ق: يتخذ.
[36151]:ساقط من ق.
[36152]:ط: زبد.
[36153]:ق: فالذين يصفوا.
[36154]:انظر هذا المعنى في: جامع البيان 16/409.
[36155]:ق: والخبيث.
[36156]:ساقط من ط.
[36157]:ط: ضربت له.
[36158]:ق: خذفت.
[36159]:ط: فكأنما.
[36160]:ط: بعلمه.
[36161]:ق: يرفع.
[36162]:ق: الجفات القدر، ط: الحيا الغدر.
[36163]:وهو قول أبي عمرو، انظر: مجاز القرآن 1/329، وجامع البيان 16/415، وإعراب النحاس 2/355، وانظر: اللسان: مادة جفأ.
[36164]:ق: مته.
[36165]:ط: لنضحف.
[36166]:انظر: الجامع 9/200.
[36167]:ساقط من ط.
[36168]:ق: علو.
[36169]:ساقط من ط.
[36170]:ساقط من ق.
[36171]:ساقط من ط.
[36172]:ق: مثال.
[36173]:ق: العلم.
[36174]:انظر: هذا المعنى معزوا إلى ابن عباس في: جامع البيان 16/410-411.
[36175]:ساقط من ق وعنه: أي ابن عباس رضي الله عنه.
[36176]:ساقط من ق.
[36177]:ق: فكذلك.
[36178]:ط: منهما.
[36179]:ساقطة من ط.
[36180]:انظر: هذا المعنى معزوا إلى عطاء في جامع البيان 16/414.
[36181]:ق: رؤية، ورؤبة: هو عبد الله بن رؤبة بن أسد سمع من أبي هريرة وعنه أبو عبيدة، له رجز مشهور (ت 145 هـ) انظر: معجم الأدباء 6/149.
[36182]:ط: جفاء لا وانظر: هذه القراءة الشاذة في: شواذ القرآن 71، وفيه قول أبي حاتم: (ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر) قلت: وهاته مسألة فقهية، أوردها المؤلف عند تفسيره لقوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلى} الأنعام 145، قال مالك، رحمه الله: أكره الفأر، والعقارب، والحية من غير أن أراه حراما بينا. انظر: نسخة الجامع الكبير بمكناس (أ) 234. وفي الكافي 186: ولا يؤكل الفيل ولا الفأر ولا الوزع هذا هو المشهور عن مالك، وزاد أن عدم أكل خشاش الأرض، وهو امها مثل الحيات، والأوزاغ، والفأر وما أشبهه هو قول أشهب، وعروة، وجماعة من المدنيين وغيرهم. انظر: جواز ذلك في: الجامع 7/120، والمغني 11/65-66. وانظر: نفس القراءة الشاذة في المحرر 10/34، وفيه قول أبي حاتم: لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن، وانظر: الجامع 9/200.
[36183]:ط: جعلت.
[36184]:انظر هذا القول في: جامع البيان 16/416 واللسان: جفأ.