روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

{ أَنزَلَ مِنَ السماء } أي من جهتها على ما هو المشاهد ، وقيل : منها نفسها ولا تجوز في الكلام . واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها ، وقيل : انزل منها نفسها { مَاء } أي كثيراً أو نوعاً منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الإجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز في { مِنْ } { فَسَالَتْ } بذلك { أَوْدِيَةٌ } دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد .

قال أبو علي الفارسي : ولا يعلم أن فاعلاً جمع على افعلة ، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير . ثم ان وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار . ووزن فعيل بجمع على أفعلة كجريب وأجربة ، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال : واد وأودية ويجمع فعيل فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف ا ه . ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل . ولا رابع لها . وفي شرح التسهيل ما يخالفه . والوادي الموضع الذي يسيل فيه المار بكثيرة ، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على المار الجاري فيه ، وهو اسم فاعل من ودي إذا سأل فإن أريد الأول فالإسناد مجازي لو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية ، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي ، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريات لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى { بِقَدَرِهَا } أي بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس ، أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغراً وكبراً لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعى لكثرة الموارد ، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير ، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما أن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياهها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفاً أو يراد بضميرها مياهها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام ، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت ، وقال أبو البقاء : إنه في موضع الصفة لأودية ، وجوز أن يكون متعلقاً بأنزل . وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما . والاشهب العقيلي . وأبو عمرو في رواية { بِقَدَرِهَا } بسكون الدال وهي لغة في ذلك .

{ فاحتمل } أي حمل وجاء افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر { السيل } أي المار الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهوداً مذكوراً بقوله تعالى : { أَوْدِيَةٌ } ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل ، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عنى به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان مكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة ، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شراً له أي الكذب ، ولو جاء هنا مضمراً لكانجائزاً عائداً على المصدر المفهوم من سالت ا ه .

وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت . وأجيب بأنه بطريق الاستخدام . ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر حقيقياً كان أو مجازياً وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتص بتلك فكيف يتصور فيه الاستخدام . نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر( {[465]} ) ا ه . وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا ، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل { زَبَدًا } هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش مائه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم ، وهو معنى قول ابن عيسى : إنه وضر الغليان وخبثه ، قال الشاعر :

وما الفرات إذا جاشت غواربه *** ترمي أواذيه العبرين( {[466]} ) بالزبد

{ رَّابِيًا } أي عالياً منتفخاً فوق الماء ، ووصف الزبد بذلك قيل : بياناً لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالأشجار الثقيلة ، وإنما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبداً فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقاً للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادىء الرأي من غير مداخلة في الحق { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الايقاد { عَلَيْهِ } وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره ، وقرأ أكثر السبعة . وأبو جعفر . والأعرج . وشيبة { تُوقِدُونَ } بتاء الخطاب ، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى : { فِى النار } عند أبي البقاء . والحوفي ، قال أبو علي : قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى : { فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين } [ القصص : 38 ] فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها ، وقال مكي . وغيره : إن { فِى النار } متعلق بمحذوف وقع حالاً من الموصول أي كائناً أو ثابتاً فيها ، ومنعوا تعلقه بتوقدون قالوا : لأنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى ، وقال أبو حيان : لو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضاً التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى :

{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقيل : إن زيادة ذلك للأشعار بالمبالغة في الاعتمال للاذابة وحصول الزبد ؛ والمراد بالموصول نحو الذهب . والفضة . والحديد . والنحاس . والرصاص ، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالايقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهاراً لكبريائه جل شأنه على ما قيل ، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوباً فيه منتفعاً به بقوله تعالى : { ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } فوفي كل من المقامين حقه فما قيل : إن الحل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل .

ونصب { ابتغاء } على أنه مفعول له كما هو الظاهر ، وقال الحوفي : إنه مصدر في موضع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات { زَبَدٌ } خبث { مّثْلِهِ } أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابياً فوقه رفع { زَبَدٌ } على أنه مبتدأ ، خبره { ومّمَّا * تُوقِدُونَ } و { مِنْ } لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئاً منه . واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل ، وإنما لم يتعرص لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان انزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعمله إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلاً فيه بل له إخلال بذلك { كذلك } أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة : { يَضْرِبُ الله الحق والباطل } أي مثل الحق ومثل الباطل ، والحذف للابناء( {[467]} ) على كمال التمثال بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل { فَأَمَّا الزبد } من كل من السيل وما يوقدون عليه ، وأفردو لم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك { فَيَذْهَبُ } مرمياً به يقال : جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به ، ويقال : أجفأ أيضاً بمعناه ، وقال ابن الأنباري : جفاء أي متفرقاً من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته ، ويقال : جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف ، وقرىء { *جفالاً } باللام بدل الهمزة وهو بمعنى متفرقاً أيضاً أخذاً من جفلت الريح الغيم كفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة ، قال ابن أبي حاتم : ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان إعرابياً جافياً ، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن ، والنصب على الحالية { جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } أي من الماء الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث { فَيَمْكُثُ } يبقى { فِى الارض } أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها ؛ وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلى ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها ، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله ، وقيل : النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أو لا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره ، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى .

وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظاً وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلاناً مقدراً بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعاً يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعاً بها مدة طويلة ، ومثل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما واخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعاً .

وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أحادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به »

وقال ابن عطية : صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرغ من ذلك جعله مثالاً للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه ، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل . وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين { كذلك } أي مثل ذلك الضرب العجيب { يَضْرِبُ الله الامثال } في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد ، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه : { يَضْرِبُ الله الحق والباطل } إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعاً .

ومن باب الإشارة :{ أَنزَلَ مِنَ السماء } من سماء روح القدس { مَاء } أي ماء العلم { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } أي أودية القلوب { بِقَدَرِهَا } بقدر استعدادها { فاحتمل السيل زَبَدًا } من خبث صفات أرض النفس { رَّابِيًا } طافياً على ذلك { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النار } نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق { ابتغاء حِلْيَةٍ } طلب زينة النفس لكونها كمالات لها { أَوْ متاع } من الفضال الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما { زَبَدٌ } خبث { مّثْلِهِ } كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس { فأما الزبد فيذهب جفاء } منفياً بالعلم { وأما ما ينفع الناس } من المعاني الحقة والفضائل الخالصة { فيمكث في الأرض } [ الرعد : 17 ] أرض النفس ، وقال بعضهم : أنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية ، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد ، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلاً فيحتمل السيل زبداً وحثالة وما يكون مانعاً من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى ، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبداً مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي ، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس ويبقى ما هو خالص لله تعالى ، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعاً خاطر الباطل ، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الإنس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعاً من القربة والقرب من الله عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى ، وقال ابن عطية : روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } الخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه ، ثم قال : وهذا قول لا يصح والله تعالى أعلم عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز ، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق ، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك ، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه : إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى :

{ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } [ الرعد : 17 ] معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه ونحن نقول : إن صح ذلك فمقصود الحبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه ، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه ، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك .


[465]:- كقول بعض المولدين "اخت الغزالة اشراقا وملتفتا" اهـ منه.
[466]:- أي الجانبين اهـ منه.
[467]:- قوله للأبناء كذا بخط المؤلف ولعله للابتناء تأمل اهـ.