ولما كان{[43907]} حمل الماء في العلو لا يمكن إلا عن قهر ، وإنزاله في وقت دون غيره كذلك{[43908]} ، أتبع هذا الختم قوله دليلاً مشاهداً عليه : { أنزل } ولما كان الإنزال قد يتجوز{[43909]} به عن{[43910]} إيجاد ما{[43911]} يعظم إيجاده ، حقق أمره{[43912]} بقوله : { من السماء } ولما كان المنزل منها{[43913]} أنواعاً شتى قال : { ماء فسالت } أي فتسبب عن إنزاله لكثرته أن سالت { أودية }{[43914]} أي مياهها{[43915]} منها{[43916]} الكبير والصغير ؛ والوادي : سفح الجبل العظيم الذي يقابله جبل أو تل فيجتمع{[43917]} فيه المطر ، فيجري في فضائه ، ومنه أخذت الدية - لجمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل { بقدرها } والقدر : اتزان{[43918]} الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان ، {[43919]} فالمعنى أن المياه ملأت الأودية{[43920]} مع ما ذلك من الدلالة على التفرد بالربوبية مما هو مثال للحق{[43921]} والباطل ، وهو قوله : { فاحتمل } والاحتمال : رفع{[43922]} الشيء على الظهر بقوة الحامل له { السيل } وهو ماء المطر الجاري من الوادي بعظم { زبداً رابياً } أي عالياً{[43923]} بانتفاخه : والزبد : الرغوة التي تعلو الماء ، ومدار المادة على الخفة ، ويلزمها العلو ، ومنه زبد البحر والبعير - للرغوة الخارجة من شدقه ، والغضبان ، وزبدت المرأة{[43924]} القطن - إذا نفشته{[43925]} ، والزباد{[43926]} - كرمان : ضرب من النبت تنفرش{[43927]} أفنانه{[43928]} ، وشاة مزبدة أي سمينة ، ومنه الزباد{[43929]} - للطيب المعروف وهو وسخ{[43930]} يشبه الرغوة يجتمع{[43931]} تحت ذنب نوع من السنانير ، ومنه الزبد - بضم وسكون - لخالص{[43932]} اللبن{[43933]} فإنه أخفه ، يقال منه : زبدت فلاناً أزبده - إذا أطعمته الزبد ، ثم اتسع فيه حتى قيل لمطلق العطية ، ومنه : " نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن زبد المشركين{[43934]} " ؛ ومنه الزدب - بكسر ثم سكون ، وهو{[43935]} النصيب ، ويمكن أن يكون من زبد اللبن{[43936]} الزبادُ للنبت{[43937]} ، فإنه مرعى ناجع ، كأنه شبه به{[43938]} أو لأنه سببه ، وكذا شاة مزبدة أي{[43939]} سمينة ويلزم الخفة الإسراع ، يقال : تزبد اليمين - إذا أسرع إليها ، أو{[43940]} إنها شبهت بالزبد في سهولة التقامه .
ولما كان الزبد أحسن مثل لمعبوداتهم ، وكان لا يختص بالماء الذي هو مائع بطبعه بجمع الأوضار والأقذار بجريه ، ذكر معه ما يشبهه{[43941]} في النفع{[43942]} من الجوامد الصلبة التي تزبد عند الإذابة مع كونها في حال الجمود في غاية الصفاء والخلوص عن الشوائب على ما يظهر ، فقال : { ومما توقدون{[43943]} } أي إيقاداً مستعلياً { عليه } أي للإذابة { في النار } من المعادن { ابتغاء حلية } تتحلون{[43944]} بها من الأساور والحلق ونحوها { أو } ابتغاء { متاع } تتمتعون به من الدراهم والدنانير والسيوف والأواني ونحوها{[43945]} ، وأصل المتاع : التمتع الحاضر ، فهذا تقسيم حاصر{[43946]} لأنواع الفلز المنوه{[43947]} إليها مع إظهار التهاون به{[43948]} وإن تنافس{[43949]} الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه{[43950]} { زبد مثله } أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه .
ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق{[43951]} على المقصود ، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول : هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى ، فيا له من مثل ! فأجيب بقوله : { كذلك } أي مثل هذا الضرب ، العلي الرتب ، الغريب العجب ، المتين{[43952]} السبب { يضرب الله } أي الذي له الأمر كله { الحق والباطل } أي{[43953]} مثلهما ؛ وضرب المثل : تسييره{[43954]} في البلاد يتمثل{[43955]} به الناس .
ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل ، شرع في شرحه ، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام ، وهو إبطال{[43956]} الباطل الذي أضلهم ، وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش ، فقال : { فأما الزبد } أي الذي هو{[43957]} مثل للباطل المطلق { فيذهب } متعلقاً{[43958]} بالاشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو{[43959]} بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته{[43960]} { جفاء } قال أبو حيان{[43961]} : أي مضمحلاً متلاشياً{[43962]} لا منفعة فيه{[43963]} ولا بقاء له{[43964]} ؛ وقال ابن الأنباري : متفرقاً ، من جفأت الريح الغيم - إذا قطعته ، وجفأت الرجل : صرعته{[43965]} - انتهى . فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما{[43966]} أثاره أهل العناد ، لا بقاء له وإن جال جولة - يمتحن الله بها{[43967]} عباده ليظهر الثابت من المزلزل - ثم ينمحق سريعاً ؛ وقال الرماني : والجفاء : نبوّ مكان الشيء به حتى يهلك { وأما ما ينفع الناس } من الماء والفلز الذي هو مثل الحق { فيمكث في الأرض } ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء ، والفلز الذي به التمام{[43968]} ، فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحي الأراضي{[43969]} الميتة ، والمعادن تحي{[43970]} موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة ، و{[43971]} الأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة{[43972]} .
ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان ، لأنه أحسن شيء معنى{[43973]} بأوجز عبارة وأوضح دلالة ، كان كأنه قيل : هل يبين{[43974]} كل شيء هذا البيان ؟ فقيل : نعم ، { كذلك } أي مثل ذلك{[43975]} الضرب { يضرب الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة { الأمثال } فيجعلها{[43976]} في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض .
ومادة " جفا " - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بكل ترتيب ، وهي جفأ جأف فجأ ، جفي جيف فيج ، جفو جوف فوج ، فجو وجف - تدور على الطرح : جفأ الوادي والقدر : رميا{[43977]} بالجفاء أي الزبد{[43978]} وجفأ القدر والوادي :{[43979]} مسح غثاءه{[43980]} أي فطرحه - وجفأه : صرعه ، والبرمة في القصعة : كفاها{[43981]} - أي طرح ما فيها - والباب : أغلقه وفتحه - ضد{[43982]} ، لأنه في كليهما كالمرمي به ، والبقل : قلعه من أصله ، والجفاء - كعزاب : الباطل ، لأنه أهل للقذف به والطرح ، والسفينة الخالية ، لأنها بمعرض قذف الماء لها .
وأجفأ ماشيته : أتعبها{[43983]} بالسير ولم يعلفها أي{[43984]} سيرها سيراً{[43985]} كأنها يقذف{[43986]} بها ، وجفأ به : طرحه ، وجفات البلادُ : ذهب خيرها ، فكانت كأنها طرحته أو صارت هي أهلاً لأن تطرح وتبعد ، والعام{[43987]} جفأةُ إبلنا ، وهو أن ينتج أكثرُها ، لأنها طرحت أجنّتها{[43988]} .
ومن يائيه : جفيته أجفيه : صرعته ، والجفاية - بالضم : السفينة الفارغة ، والمجفي{[43989]} : المجفو .
ومن واويه : جفا الشيء يجفو - إذا لم يلزم مكانه ، {[43990]} كأنه فصل من مكانه فطرح به ، والجفاء والجفوة{[43991]} : ترك الصلة ، واجتفيته : أزلته عن مكانه ، وجفا عليه كذا : ثقل ، فصار{[43992]} أهلاً لطرحه والانفصال منه ، ورجل جافي الخلقة والخلق : كز غليظ ، لأن الشيء إذا غلظ لم يلتصق التصاق اللطيف ، وأجفى الماشية : أتبعها ولم يدعها تأكل ، وفيه جفوة أي هو جاف ، فإن كان مجفواً قيل : به جفوة .
ومن مقلوبه مهموزاً : جافة : صرعه وذعره{[43993]} أي قذف في قلبه رعباً : والشجرة : قلعها من أصلها ، والجثآف - كشداد : الصيّاح ، كأنه يقذف بصوته ، ورجل مجأف{[43994]} : لا ثبات{[43995]} له{[43996]} - كأنه يقذف به من مكانه ، والمجؤوف : الجائع{[43997]} والمذعور ، كأنه من الجوف ، وإنما همزت واوه الأولى لانضمامها مع أنه يمكن تنزيله{[43998]} على أنه قذف فيه ذلك .
ومن يائيه : الجيفة : جثة الميت وقد أراح ، والجيّاف - كشداد : النباش ، و{[43999]} جافت تجيف : أنتنت{[44000]} فصارت متهيئة للطرح والتغييب{[44001]} ، وجيّفه : ضربه ، لما رآه أهلاً للبعد ، وجيّف فلان في كذا وجُيّف أي فَزَّع{[44002]} وأفزع{[44003]} أي طرح في قلبه رعب ، فصار لا تسعه أرض ، بل يقذف بنفسه{[44004]} من مكان إلى آخر .
ومن واويه{[44005]} : الجوف : المطمئن من الأرض{[44006]} ، لأنه يسع ما يطرح فيه ويمسكه ، ومهما طرح من الجبال من شيء استقر به ، والجوف منك : بطنك ، لافتقاره إلى طرح الغذاء فيه ، وأهل الأغوار{[44007]} يسمون فساطيط عمالهم الأجواف - لطرح أنفسهم وأمتعتهم فيها - وجوف الليل : وسطه - تشبيه بالجوف ، والأجوفان : البطن والفرج ، والجوف - محركة السعة ، والجوفاء من الدلاء : الواسعة ، ومن القنا والشجر : الفارغة ، والجائفة : جراحة{[44008]} تبلغ الجوف ، وتلعة{[44009]} جائفة : قعيرة{[44010]} - لأنها لقعرها{[44011]} بالجوف أشبه منها بالجبل{[44012]} ، وجوائف النفس : ما تقعر من الجوف في مقارّ الروح ، والمجوف - كمعظم : من لا قلب له - كأن قلبه طرح من جوفه فصار خالياً . والجُوفان - بالضم : أير{[44013]} الحمار - لسعة جوفه ، وأجفت الباب : رددته - كأنه من السلب ، لأنك سددت جوف البيت ، أو أنه شبه الإغلاق بطرح الباب .
ومن مقلوبه مهموزاً : فجئه الأمر - كسمعه ومنعه : هجم عليه من غير أن يشعر{[44014]} ، كأنه قذف به إليه ، وفجئت{[44015]} الناقة{[44016]} - كفرح : عظم{[44017]} بطنها ، كأنه قذف فيه{[44018]} بشيء{[44019]} ، وفجأ - كمنع : جامع ، لأنه طرحها وطرح نفسه عليها ، والمفاجىء : الأسد ، لأنه يخرج بغتة فيثب{[44020]} من غير توقف{[44021]} .
ومن مقلوبه واوياً : الفجوة : المتسع من الأرض والفرجة - لتهيئها لما يطرح فيها ، والفجوة - أيضاً : ساحة الدار وما بين حوامي الحوافر ، أي ميامنها ومياسرها ، وفجا قوسه : رفع وترها{[44022]} عن كبدها فهي فجواء ، وفجا بابه : فتحه ، فصار كالجوف ، والفجا : تباعد ما بين الركبتين أو الفخذين أو الساقين أو عرقوبي البعير ؛ فجي - كرضي فهو{[44023]} أفجى ، وعظم بطن الناقة ، والفعل كالفعل ، والتفجية : الكشف ، لأنك{[44024]} طرحت الغطاء ، والتفجية - أيضاً : التنحية ، وهي واضحة في الطرح ، و{[44025]} أفجى : وسّع{[44026]} النفقة على عياله - كأنه يقذف بها قذفاً .
ومن مقلوبه يائياً : أفاج{[44027]} الرجل - إذا أسرع{[44028]} ، ومنه الفيج - لرسول السلطان على رجليه - كأنه لسرعته يطرح به في{[44029]} الأرض - هذا{[44030]} هو الصحيح الذي صححه صاحب العباب ، لأنه معرب بيك{[44031]} ، وقيل : إنه واوي ، أصله : فيوج ، ثم قيل : فيج - ككيس ، ثم خفف ، وجمعه الفيوج{[44032]} ، وقيل : الفيوج : الذين يدخلون السجن ويخرجون ويحرسون ، وأفاج في الأرض : ذهب ، والقوم : ذهبوا وانتشروا - كأنه{[44033]} قذف بهم ، والفيج : الوهد المطمئن من الأرض ، لأنه موضع لطرح ما في الأعالي .
ومن مقلوبه واوياً : الفوج : الجماعة ، كأنهم اقتطعوا من الجمهور فقذف بهم ، وفاج المسك : فاح وسطع ، أي انتشرت رائحته ، والنهار : برد ، إما بمعنى طرح برده على ما فيه ، وإما لإحواجه الحيوان إلى أن يطرح عليه ما يدفئه ، وأفاج : أسرع وعدا وأرسل الإبل على الحوض قطعة قطعة{[44034]} ، والفائج : البساط الواسع من الأرض ، لتهيئه لما يطرح فيه ، من تسمية المحل باسم الحال ، وأفاج في عدوه : أبطأ . فهو للسلب ، وفاجت الناقة برجيلها{[44035]} : نفحت بهما من خلفها ، والفائجة : متسع ما بين كل مرتفعين ، كأنه محل طرح ما ينزل منهما .
ومن مقلوبه : وجف يجف وجيفاً : اضطرب ، والوجف ضرب من سير الإبل والخيل ، وجف يجف وأوجفته واستوجف الحب فؤاده : ذهب به ، كأنه طرحه منه .