لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

وقوله عز وجل : { أنزل من السماء ماء } لما شبه الله عز وجل الكافر بالأعمى والمؤمن بالبصير وشبه الكفر بالظلمات والإيمان بالنور ضرب لذلك مثلاً فقال تعالى : أنزل من السماء ماء يعني المطر { فسالت أودية بقدرها } أودية جمع واد وهو المفرج بين الجبلين يسيل فيها الماء وقوله : فسالت أودية فيه اتساع ، وحذف تقديره فسال في الوادي فهو كما يقال جري النهر والمراد جرى الماء في النهر فحذف في لدلالة الكلام عليه بقدرها . قال مجاهد بمثلها وقال ابن جريج : الصغير بقدره والكبير بقدره ، وقيل : بمقدار مائها وإنما نكر أودية لأن المطر إذا نزل لا يعم جميع الأرض ، ولا يسيل في كل الأودية بل ينزل في أرض دون أرض ويسيل في واد دون وادٍ . فلهذا السبب جاء هذا بالتنكير . وقال ابن عباس : أنزل من السماء ماء يعني قرآناً وهذا مثل ضربه الله تعالى فسالت أودية بقدرها يريد بالأودية القلوب شبه نزول القرآن الجامع للهدى والنور ، والبيان بنزول المطر لأن المطر إذا نزل عمّ نفعه وكذلك نزول القرآن وشبه القلوب بالأودية ، لأن الأودية يستكن فيها الماء وكذلك القلوب يستكن فيها الإيمان والعرفان ببركة نزول القرآن فيها ، وهذا خاص بالمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بنزول القرآن ( ق ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء نفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا ورعوا ، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فتعلم ، وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله ، وغيره في معنى هذا الحديث وشرحه أما الكلأ فباغمز يقع على الرطب واليابس من الحشيش ، وأما قوله وكان منها أجادب فالجيم والدال المهملة والباء الموحدة كذا في الصحيحين ، وهي الأرض التي لا تنبت الكلأ جمع جدب على غير قياس وقياسه أجدب ، والجدب ضد الخصب ، وقال الخطابي : هي التي تمسك الماء ولم يسرع فيه النضوب وفي رواية الهروي أخاذات بالخاء المعجمة والذال المعجمة جمع آخاذة وهي الغدير الذي يمسك الماء ، وقوله : ورعوا كذا هو في صحيح مسلم من الرعي ، ووقع في صحيح البخاري وزرعوا بزيادة زاي من الزرع والقيعان بكسر القاف جمع قاع وهو المستوي من الأرض ، وقوله : فذلك مثل من فقه في دين الله يروى بضم القاف وهو المشهور وروي بكسرها ومعناه فهم الأحكام وأما معنى الحديث ومقصوده فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً لما جاء به من الهدى ، والعلم بالأرض التي أصابها المطر . قال العلماء : والأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس لأنهم منها خلقوا ، فالنوع الأول من أنواع الأرض الطيبة التي تنتفع بالمطر فتنبت به العشب فينتفع الناس به والدواب بالشرب والرعي وغير ذلك وكذلك النوع الأول من الناس من يبلغه الهدى من غير ذلك من العلم فيحيا به قلبه ويحفظه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع به وينفع غيره . قال مسروق : صحبت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالأخاذات لأن قلوبهم كانت واعية فصارت أوعية للعلوم بما رزقت من صفاء الفهوم . النوع الثاني من أنواع الأرض : أرض لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة لغيرها ، وهي إمساك الماء لغيرها لينتفع به الناس والدواب وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة ، لكن ليس لهم أفهام ثاقبة فيبقى ما عندهم من العلم حتى يجيء المحتاج إليه المتعطش لما عندهم من العلم فيأخذه منهم فينتفع به هو وغيره ، النوع الثالث : من أنواع الأرض أرض سبخة لا تنبت مرعى ولا تمسك ماء كذلك النوع الثالث من الناس ليس لهم قلوب حافظة ، ولا أفهام ثاقبة فإذا بلغهم شيء من العلم لا ينتفعون به في أنفسهم ولا ينفعون غيرهم والله وأعلم . وقوله تعالى { فاحتمل السيل زبداً } الزبد ما يعلو على وجه الماء عند الزيادة ، كالحبب وكذلك ما يعلو على القدر عند غليانها والمعنى فاحتمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبداً { رابياً } يعني عالياً مرتفعاً فوق الماء طافياً عليه ، وهاهنا تم المثل ثم ابتدأ بمثل آخر فقال تعالى { ومما يوقدون عليه في النار } الإيقاد جعل الحطب في النار لتتقد تلك النار تحت الشيء ليذوب { ابتغاء حلية } يعني لطلب زينة ، والضمير في قوله عليه يعود على الذهب والفضة ، وإن لم يكونا مذكورين لأن الحلية لا تطلب إلا منهما { أو متاع } يعني أو لطلب متاع آخر مما ينتفع به كالحديد والنحاس والرصاص ونحوه مما يذاب وتتخذ منه الأواني وغيرها مما ينتفع له ، والمتاع كل ما يتمتع به . ويقال لكل ما ينتفع به في البيت كالطبق والقدر ونحو ذلك من الأواني : متاع { زبد مثله } يعني أن ذلك الذي يوقد عليه في النار إذا أذيب ، فله أيضاً زبد مثل زبد الماء فالصافي من الماء ومن هذه الجواهر هو الذي ينتفع به وهو مثل الحق . والزبد من الماء ومن هذه الجواهر هو الذي لا ينتفع به ، وهو مثل الباطل وهو قوله تعالى { كذلك يضرب الله الحق والباطل } فالحق هو الجوهر الصافي الثابت ، والباطل هو الزبد الطافي الذي لا ينتفع به وهو قوله { فأما الزبد فيذهب جفاء } يعني ضائعاً باطلاً والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه . وقيل : الجفاء المتفرق يقال جفأت الريح الغيم إذا فرقته والمعنى أن الباطل وإن علا في وقت فإنه يضمحل ويذهب { وأما ما ينفع الناس } يعني الماء الصافي والجوهر الجيد من هذه الأجسام التي تذاب { فيمكث في الأرض } يعني يثبت ويبقى ولا يذهب { كذلك يضرب الله الأمثال } قال أهل التفسير والمعاني : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل . فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال ، فإن الله يمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء فيذهب الزبد ويبقى الماء الصافي الذي ينتفع به ، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى ويذهب العلو الذي هو الكدر ، وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل . فالباطل وإن علا في وقت فإنه يذهب هو وأهله ، والحق يظهر هو وأهله . وقيل : هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس ومثل الكافر وخبث اعتقاده كالزبد الذي لا ينتفع به البتة . وقيل : هذا مثل ضربه الله للنور الذي يحصل في قلوب العباد على ما قسم لها في الأزل لأن الوادي إذا سال كنس كل شيء فيه من النجاسات والمستقذرات ، كذلك إذا سال وادي قلب العبد بالنور الذي قسم له على قدر إيمانه ومعرفته كنس كل ظلمة وغفلة فيه ، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض يعني يذهب البواطل وهي الأخلاق المذمومة ، وتبقى الحقائق وهي الأخلاق الحميدة كذلك يضرب الله الأمثال .