جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } جمع واد ، وهو موضع يسيل فيه الماء ، فنسبة السيل مجاز للمبالغة ، { بِقَدَرِهَا } أي : أحذ كل واد بحبسه ، فالكبير يسع الكثير ، والصغير يسع القليل ، قيل : بمقدارها الذي علم الله أنه نافع ، { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا } أي : الزبد الذي يظهر على وجه الماء من غليانه ، { رَّابِيًا } : مرتفعا على وجه السيل ، { وَمِمَّا يُوقِدُونَ {[2503]}عَلَيْهِ فِي النَّارِ } أي : جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك ، { ابْتِغَاء } : طلب ، { حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ } : كالأواني وآلات الحرث والحرب ، { زَبَدٌ مِّثْلُه } أي : مما توقدون عليه زبد مثل زبد الماء ومن للابتداء أو للتبعيض ، { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } أي : مثلهما ، فالحق كالماء الذي ينتفع به الناس بقدر وسع أنهارهم وأوديتهم ، ويمكث في الأرض وكالجواهر الأرضية المنتفعة بها في صواغ الحلي والأمتعة عنها ويدوم نفعها والباطل كالزبد الذي ليس له نفع ويزول بسرعة وإن علا بعض الأحيان على الماء الصافي وعلى الجواهر حين أذيبت ، وعن بعض السلف أراد من الماء القرآن{[2504]} ، ومن الأودية القلوب احتملت القلوب منه على قدر يقينها وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وقالوا أيضا : العمل السيئ يضمحل عن أهله كالزبد لا نفع له و لا يبقى وأما من عمل بالحق كان له ويبقى كما يبقى الماء الصافي والجواهر الخالصة ، { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء } أي : يرمى به السيل منصوب على الحال ، { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ } : كالماء الصافي وخلاصة الفلزات ، { فَيَمْكُثُ{[2505]} فِي الأَرْضِ } وبه ينتفع الخلق ، { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } : للإيضاح والتبيين .


[2503]:أي: و مما توقدون ينشأ زبد الماء أو بعضه زبد مثله /12.
[2504]:و في الحديث الصحيح يؤيد هذا التأويل وهو"مثل ما بعثت به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضا منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت، ومنها أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به، بسقيهم وزرعهم، ومنها قيعان فلا يمسك ولا ينبت" /12 وجيز. [أخرجه البخاري في "العلم"، ومسلم في "الفضائل"، (2282)].
[2505]:بدأ بالزبد إذ هو المتأخر والباطل كناية عنه، وهو أيضا متأخر و هذه طريقة حسنة، يبدأ بتقسيم ما ذكر آخرا ليكون بجنيه نحو: "يوم تبيض وجوه وتسود وجود فأما الذين اسودت وجوههم" (آل عمران: 106)، وقد يكون الأمر بالعكس نحو: "فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا" (هود:105)، فكان الله أعلم يبدأ بما هو أهم بالمقصود والذكر /12 وجيز.