غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

12

ثم ضرب مثلاً آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال :{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية } أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل . وقيل : الوادي اسم للماء من ودى إذا سال ، والمعنى سالت مياه . قال الفارسي : لا نعلم فاعلاً جمع على " أفعلة " إلا هذا وكأنه حمل على " فعيل " فجمع على " أفعلة " كجريب وأجربة كما أن فعيلاً حمل على فاعل فجمع على " أفعال " مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر . وقال غيره : نظير وادٍ وأودية نادٍ وأندية . ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوية بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض . قال في الكشاف : معنى { بقدرها } بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله : { وأما ما ينفع الناس } وقال الواحدي : معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن استع كثر الماء . والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ونحوه . ومعنى { رابياً } قال الزجاج : طافياً فوق الماء . وقال غيره : زائداً بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد . ثم قال سبحانه إظهاراً للكبرياء كما هو ديدن الملوك { ومما يوقدون عليه } " من " لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء . أو للتبعيض بمعنى بعضه زبد مثله أراد به الأجسام المتطرقة المتفرقة الرابية . والإيقاد على الشيء قسمان : أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار كالآجر في قوله :

{ أوقد لي يا هامان على الطين } [ القصص : 38 ] والثاني أن يكون في النار كأنواع الفلز ولهذا قال ههنا بزيادة لفظة { في النار } قال في الكشاف : فائدة قوله { ابتغاء حلية أو متاع } مثل فائدة قوله { بقدرها } لأنه جميع بين لماء والفلز في النفع في قوله : { وأما ما ينفع الناس } أي وأما ما ينفعهم به من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بالفلز وهو اتخاذ الحلي من الذهب والفضة واتخاذ سائر أثاث البيت وأمتعته من الحديد والنحاس والرصاص والأسرب وما يتركب منها والمتاع كل ما تمتع به . { كذلك يضرب الله الحق والباطل } أي يضرب الأمثال للحق والباطل ومثله في آخر الآية فاختصر الكلام بأن حذف الأمثال من الأوّل والحق والباطل من الثاني تأكيداً للمقصود مع رعاية الاختصار . ثم شرع في تتميم المثل قائلاً { فأما الزبد فيذهب جفاء } نصب على الحال وهو اسم لما ينفيه السيل . يقال : جفأ الوادي بالهمزة جفأ إذا رمى بالقذر والزبد ، وكذلك القدر إذا رمت بزبدها عند الغليان { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } حاصل المثل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء النافع في العيون والآبار والأنهار ، وكذا الأجساد المتطرقة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويتلاشى ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به أزمنة متطاولة . وتطبيق المثل على الحق والباطل أنه سبحانه أنزل من سماء الوحي ماء بيان القرآن فسالت أودية القلوب بقدرها فإن كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب على قدر استعداده . ثم إنه يختلط بذلك البيان شكوك وشبهات ولكنها بالآخرة تضمحل ويبقى العلم واليقين ، فزبد السيل والفلز مثل للباطل في سرعة اضمحلاله وانسلاخه من المنفعة ، والماء والفلز الصافي مثل للحق في البقاء والانتفاع به .

/خ29