فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه ، وللباطل ومنتحليه فقال : { أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } أي : من جهتها ، والتنكير للتكثير أو للنوعية { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } جمع وادٍ ، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما . قال أبو علي الفارسي : لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلاّ هذا ، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل جريب وأجربة .

كما أن فعيلاً حمل على فاعل ، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف ، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر . قال : وفي قوله : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } توسع أي : سال ماؤها ، قال : ومعنى { بِقَدَرِهَا } بقدر مائها ، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها . قال الواحدي : والقدر مبلغ الشيء ، والمعنى : بقدرها من الماء ، فإن صغر الوادي قلّ الماء وإن اتسع كثر ، وقال في الكشاف : { بقدرها } بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ . قال ابن الأنباري : شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر ، إذ نفع نزول القرآن يعمّ كعموم نفع نزول المطر ، وشبه الأودية بالقلوب : إذ الأودية يستكنّ فيها الماء كما يستكنّ القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين . { فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } الزبد : هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ، ويقال له : الغثاء والرغوة ، والرابي : العالي المرتفع فوق الماء . قال الزجاج : هو الطافي فوق الماء ، وقال غيره : هو الزائد بسبب انتفاخه ، من ربا يربو إذا زاد . والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء ، فإنه يضمحلّ ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح . فكذلك يذهب الكفر ويضمحلّ . وقد تمّ المثل الأولّ ، ثم شرح سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار } «من » لابتداء الغاية ، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، أو للتبعيض ، بمعنى : وبعضه زبد مثله ، والضمير للناس ، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره . هذا على قراءة { يوقدون } بالتحتية ، وبها قرأ حميد وابن محيصن ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد . والمعنى : ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة . { ابتغاء حِلْيَةٍ } أي : لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون كالذهب والفضة { أَوْ متاع } أي : أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص { زَبَدٌ مّثْلُهُ } المراد بالزبد هنا الخبث ، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في { مثله } يعود إلى { زبداً رابياً } وارتفاع { زبد } على الابتداء وخبره { مما يوقدون } ، { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } أي : مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل ، ثم شرع في تقسيم المثل فقال : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء } يقال : جفأ الوادي بالهمز جفاء : إذا رمى بالقذر والزبد . قال الفراء : الجفاء الرمي . يقال : جفأ الوادي غثاء جفاء : إذا رمى به ، والجفاء بمنزلة الغثاء . وكذا قال أبو عمرو بن العلاء ، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ «جفالاً » . قال أبو عبيدة : يقال : أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها . وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته ، قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفأر . واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة ، أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه . وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة ، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب ، فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها . { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } منهما وهو الماء الصافي ، والذائب الخالص من الخبث { فَيَمْكُثُ فِي الأرض } أي : يثبت فيها . أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به ، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة . وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل ، يقول : إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل ؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض ، كذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه ، وهو مثل الحق . قال الزجاج : فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به . وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدّم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن . { كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } أي : مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم ، وهذا تأكيد لقوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } .

/خ18