وقوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً ) إلى آخر ما ذكر من الأمثال إلى قوله ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) قال بعض أهل التأويل : هذا مثل ضربه الله لليقين والشك ، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها .
فأما الشك فلا ينفع منه عمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ؛ وهو قوله : ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) وهو الشك ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) وهو اليقين .
وكما يجعل الحلي في النار ، فيؤخذ خالصة ، ويترك[ في الأصل وم : وينزل ] خبيثه في النار ، كذلك يقبل الله اليقين ، ويترك الشك ، وهو قول ابن عباس .
وقال قتادة : قوله ( أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الصغير بصغره ، والكبير بكبره ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) يقول : عاليا ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ[ في الأصل وم : توقدون ، وهي قراءة ابن كثير وابن عامر ، انظر معجم القراءات القرآنية . ج3/214 ] عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) والجفاء ما يتعلق بالشجر من الزبد ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) فضرب المثل للحق والباطل .
يقول ، والله أعلم ، كما اضمحل هذا الزبد الذي ظهر على فوق الماء ، فصار جفاء ، لا ينتفع به ، ولا ترجى بركته ، كذلك يضمحل الباطل عن أهله كما اضمحل هذا الزبد ، وكما مكث هذا الماء في الأرض ، وقر قرارها ، فأمرعت ، ورجيت بركته كذلك ، وأخرجت له نباتها ، كذلك يبقى الحق لأهله كما يبقى هذا الماء في الأرض .
[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ ) يقول يبقى هذا الذهب والفضة حين أدخل في النار ، وذهب خبثه كذلك يبقى الحق لأهله ( أو متاع ) يعني هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به وفيه منافع .
يقول : كما بقي خالص هذا الحديد وهذا الصفر حين أدخل النار ، وذهب خبثه ، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما .
وقال الكلبي : قوله : ( أنزل من السماء ماء ) وهو القرآن ، فاحتمله القلوب بأهوائها : ذو[ في الأصل وم : دون ] اليقين على قدر يقينه ، وذو الشك[ في الأصل وم : شك ] على قدر شكه . فاحتملت الأهواء باطلا كثيرا وجفاء . فالماء هو الحق ، والأودية هي القلوب ، والسيل الأهواء ، والزبد الباطل ، والحق المتاع والحلية .
قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) فالزبد هو[ في الأصل وم : و ] خبث الحديد وخبث المتاع هو الباطل ؛ من أصاب من هذا لم ينتفع به فكذلك الباطل يوم القيامة لا ينتفع بباطله . وأما الحلية والماء والمتاع ، فهو الحق ، من أصاب شيئا منه انتفع به ، وكذلك صاحب الحق يوم القيامة ينتفع بالحق . أما الحلية فالذهب والفضة ، وأما المتاع فالصفر[ في الأصل وم : فالصفرة ] والحديد والرصاص والنحاس ونحوه ، ليس شيء من هذا ينتفع به حتى يدخل النار ، فيميز صفوه من خبثه .
وقال الحسين بن واقد : وهو قول مقاتل : ضرب الله [ مثل ][ ساقطة من الأصل وم ] الكفر والإيمان ومثل الحق والباطل ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) سال الوادي الكبير على قدر كبره ، والصغير على صغره[ في الأصل وم : صغرها ] ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) أي عاليا .
ثم قال : ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ ) [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] الذهب و الفضة . ثم قال : ( أو متاع ) [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] الشبه والحديد والصفر والرصاص ( زبد مثله ) أي للسيل زبد لا ينتفع به ، والماء ينتفع به ، وللحلي والمتاع أيضا زبد مثل زبد السيل ، إذا أدخل النار وهو خبثه ، لا ينتفع به والحلي والمتاع ما خلص منهما ينتفع به .
فمثل الأودية مثل القلوب ، ومثل السيل مثل الأهواء ، ومثل الماء والحلي والمتاع الذي لا ينتفع به مثل الباطل . فكما ينتفع بالماء وما خلص من الحلي والمتاع به أهله[ في الأصل وم : أصله ] في الدنيا ، فكذلك الحق ينفع أهله في الآخرة . وكما لا ينفع الزبد وخبث الحلي وخبث المتاع أهله في الدنيا ، فكذلك الباطل لا ينفع أهله في الآخرة ، ( كذلك ) أي هكذا ( يضرب الله الأمثال ) أي يبين الله ما ذكر من مثل الحق والباطل ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) قال : يعني يابسا ، فلا ينتفع به ( وأما ما ينفع الناس ) من الماء ( فيمكث في الأرض ) فيسقون ، ويزرعون عليه ، وينتفعون به .
فهذه ثلاثة أمثال ضربها في مثل واحد ، يقول : هكذا يبين الله الأمثال والأشباه ( للذين استجابوا ) أي أجابوا ( لربهم ) في الدنيا بالإيمان والتوحيد ( الحسنى ) لهم ، وهي الجنة في الآخرة .
فضرب الله مثل الإيمان والحق ، ووصفهما بالثبات والقرار والطيب بالأرض الطيبة مرة [ والشجرة الطيبة ][ في الأصل وم : وشجرة طيبة ] ثانيا .
وضرب مثل الكفر والباطل بالأرض الخبيثة والشجرة الخبيثة ووصفهما بالخبث والذهاب ، فقال : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا /263-أ/ كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) ( تؤتي أكلها كل حين )[ إبراهيم : 24و25 ] وقال ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )[ إبراهيم : 26 ] .
وقال : ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه )[ الأعراف : 58 ] وضرب مثل المؤمن مرة بالبصير والسميع [ ثانيا ][ ساقطة من الأصل وم ] ومثل الكافر بالأعمى والأصم [ فقال ][ ساقطة من الأصل وم ] ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا )[ هود : 24 ] .
وضرب مثل الكفر مرة بالظلمات ومرة بالرماد والموت ، ومثل الإيمان بالنور والضياء والحياة ونحوه .
فهذه الأمثال [ التي ضربها ][ في الأصل وم : ضرب ] الله عز وجل تخرج كلها مخرج الدعوى ؛ إذ ليس فيها بيان الحق منها وبيان المحق من غير المحق سوى أن فيها : هل يستوي ذا مع ذا ؟ لا يستوي على ما ذكر ، وهل يستوي الطيب والخبيث أو البصير [ والأعمى ، أو السميع والأصم ][ في الأصل وم : والسميع الأصم والأعمى ] أو الميت والحي ، أو الظلمات والنور وأمثالها[ في الأصل وم : وأمثاله ] وكل أهل الأديان ، وإن اختلفت مذاهبهم[ في الأصل وم : مذاهبه هو ] ؛ يقول : كل [ الذي ][ ساقطة من الأصل وم ] أنا عليه هو الحق ، والباطل هو الذي عليه غيري ، وينفي كل عن نفسه العمى[ في الأصل وم : الأعمى ] والصمم وكونه في ظلمة ، ويدعي كونه في النور ، ونحوه .
فليس في نفس الأمثال التي ضربت بيان الحق من الباطل والمحق من غيره . فذلك يعرف بغيرها بالدلائل والحجج والبراهين ، وهو ما ذكر ( وتلك الأمثال نضربها للناس )[ العنكبوت : 43 والحشر : 21 ] .
فالدلائل والحجج والبراهين يعرف الحق من الباطل والمحق من غيره . فللإيمان والحق دلائل وحجج ، يعرف ذووا العقول بالعقول حسنه وطيبه وما يعقب من ثمره[ في الأصل وم : ثمرته ] ، ويبين قبح الكفر والباطل لذوي العقول بالعقول ، واستخباءهم الباطل ، وما يعقب لأهله من الخبث والقبح والشر .
وقال القتبي : ( زبدا رابيا ) أي عاليا على الماء ( ابتغاء حلية ) أي حلي ( أو متاع ) آنية ، يعني من فلز الأرض وجواهرها مثل الرصاص والحديد ونحوهما[ في الأصل وم : ونحوه ] والذهب والفضة حين[ في الأصل وم : حيث ] يعلوها إذا أذيبت مثل زبد الماء ، والجفاء ما رمى به الوادي إلى جنابته يقال : أجفأت القدر بزبدها إذا ألقت زبدها عنها .
وقال أبو عوسجة : ( رابيا ) أي مرتفعا فوق ظهر الماء ، ويقال : أزبد الماء إذا صار له زبد ( ابتغاء حلية ) هو من الحلي من الذهب والفضة مما يتحلى به ( أو متاع ) أي باطلا لا ينتفع به . وأما الجفاء فهو إظهار التهاون وقلة الاكتراث له والاستخفاف . وقال : الجفاء هو الغثاء ، ويقال : قد انجفى الوادي إذا علاه ذلك ، ثم جرى به الماء .
قال عوسجة : والغثاء عندي ما حمله السيل من العيدان والبعر وما يشبه ذلك .
وقال القتبي : قوله تعالى : ( فجعله غثاء أحوى )[ الأعلى : 5 ] أي يابسا .
قال أبو عبيدة : الجفاء هو[ في الأصل وم : الجود ] الجمد ، ويذهب إلى أن الزبد يجمد ويجتمع على الماء ، ثم يذهب بمائها .
وقال الفراء : ( فيذهب جفاء ) أي يذهب سريعا كما جاء .
وقال الشيخ رحمه الله : ويشبه أن يكون المثل الذي ضرب بالماء ، هو للدين ، وهو أن الدين الحق الذي أنزل من السماء واحد ، لكن الناس اتخذوه أديانا متفرقة ومذاهب مختلفة كقوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل )[ الأنعام : 56 ] .
فالدين الذي أمر بسلوكه واتباعه واحد ، وهو كالماء الذي أنزل من السماء واحد صاف ، وهو الأصل ، فحدث منه أشياء لا يعبأ [ بها ، ولا ][ في الأصل : به ، في م : به ولا ] يكترث ؛ فعلى ذلك السبيل [ الحق ][ ساقطة من الأصل وم ] واحد ، أو أن يكون وجه ضرب مثله بالماء ؛ وهو أن الماء إذا أنزل من السماء أنزل طيبا عذبا ، لكن اختلفت ألوانه وطعومه باختلاف جواهر الأرض ، بعضه خرج مالحا أجاجا ، وبعضه مر ، لا ينتفع به ، وبعضه عذب ، وذلك على اختلاف جواهر الأرض ، وإلا كان ينزل من السماء كله عذب طيب فالذي ينتفع به واحد .
فعلى ذلك الدين الذي ينتفع به واحد ، والبواقي لا ينتفع بها كالمياه المرة والمالحة ، أو يكون غيره هذا ، ونحن لا نعرفه ، والله أعلم .