تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ} (17)

وقوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً ) إلى آخر ما ذكر من الأمثال إلى قوله ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) قال بعض أهل التأويل : هذا مثل ضربه الله لليقين والشك ، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها .

فأما الشك فلا ينفع منه عمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ؛ وهو قوله : ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) وهو الشك ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) وهو اليقين .

وكما يجعل الحلي في النار ، فيؤخذ خالصة ، ويترك[ في الأصل وم : وينزل ] خبيثه في النار ، كذلك يقبل الله اليقين ، ويترك الشك ، وهو قول ابن عباس .

وقال قتادة : قوله ( أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الصغير بصغره ، والكبير بكبره ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) يقول : عاليا ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ[ في الأصل وم : توقدون ، وهي قراءة ابن كثير وابن عامر ، انظر معجم القراءات القرآنية . ج3/214 ] عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) والجفاء ما يتعلق بالشجر من الزبد ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) فضرب المثل للحق والباطل .

يقول ، والله أعلم ، كما اضمحل هذا الزبد الذي ظهر على فوق الماء ، فصار جفاء ، لا ينتفع به ، ولا ترجى بركته ، كذلك يضمحل الباطل عن أهله كما اضمحل هذا الزبد ، وكما مكث هذا الماء في الأرض ، وقر قرارها ، فأمرعت ، ورجيت بركته كذلك ، وأخرجت له نباتها ، كذلك يبقى الحق لأهله كما يبقى هذا الماء في الأرض .

[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ ) يقول يبقى هذا الذهب والفضة حين أدخل في النار ، وذهب خبثه كذلك يبقى الحق لأهله ( أو متاع ) يعني هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به وفيه منافع .

يقول : كما بقي خالص هذا الحديد وهذا الصفر حين أدخل النار ، وذهب خبثه ، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما .

وقال الكلبي : قوله : ( أنزل من السماء ماء ) وهو القرآن ، فاحتمله القلوب بأهوائها : ذو[ في الأصل وم : دون ] اليقين على قدر يقينه ، وذو الشك[ في الأصل وم : شك ] على قدر شكه . فاحتملت الأهواء باطلا كثيرا وجفاء . فالماء هو الحق ، والأودية هي القلوب ، والسيل الأهواء ، والزبد الباطل ، والحق المتاع والحلية .

قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) فالزبد هو[ في الأصل وم : و ] خبث الحديد وخبث المتاع هو الباطل ؛ من أصاب من هذا لم ينتفع به فكذلك الباطل يوم القيامة لا ينتفع بباطله . وأما الحلية والماء والمتاع ، فهو الحق ، من أصاب شيئا منه انتفع به ، وكذلك صاحب الحق يوم القيامة ينتفع بالحق . أما الحلية فالذهب والفضة ، وأما المتاع فالصفر[ في الأصل وم : فالصفرة ] والحديد والرصاص والنحاس ونحوه ، ليس شيء من هذا ينتفع به حتى يدخل النار ، فيميز صفوه من خبثه .

وقال الحسين بن واقد : وهو قول مقاتل : ضرب الله [ مثل ][ ساقطة من الأصل وم ] الكفر والإيمان ومثل الحق والباطل ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) سال الوادي الكبير على قدر كبره ، والصغير على صغره[ في الأصل وم : صغرها ] ( فاحتمل السيل زبدا رابيا ) أي عاليا .

ثم قال : ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ ) [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] الذهب و الفضة . ثم قال : ( أو متاع ) [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] الشبه والحديد والصفر والرصاص ( زبد مثله ) أي للسيل زبد لا ينتفع به ، والماء ينتفع به ، وللحلي والمتاع أيضا زبد مثل زبد السيل ، إذا أدخل النار وهو خبثه ، لا ينتفع به والحلي والمتاع ما خلص منهما ينتفع به .

فمثل الأودية مثل القلوب ، ومثل السيل مثل الأهواء ، ومثل الماء والحلي والمتاع الذي لا ينتفع به مثل الباطل . فكما ينتفع بالماء وما خلص من الحلي والمتاع به أهله[ في الأصل وم : أصله ] في الدنيا ، فكذلك الحق ينفع أهله في الآخرة . وكما لا ينفع الزبد وخبث الحلي وخبث المتاع أهله في الدنيا ، فكذلك الباطل لا ينفع أهله في الآخرة ، ( كذلك ) أي هكذا ( يضرب الله الأمثال ) أي يبين الله ما ذكر من مثل الحق والباطل ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) قال : يعني يابسا ، فلا ينتفع به ( وأما ما ينفع الناس ) من الماء ( فيمكث في الأرض ) فيسقون ، ويزرعون عليه ، وينتفعون به .

فهذه ثلاثة أمثال ضربها في مثل واحد ، يقول : هكذا يبين الله الأمثال والأشباه ( للذين استجابوا ) أي أجابوا ( لربهم ) في الدنيا بالإيمان والتوحيد ( الحسنى ) لهم ، وهي الجنة في الآخرة .

فضرب الله مثل الإيمان والحق ، ووصفهما بالثبات والقرار والطيب بالأرض الطيبة مرة [ والشجرة الطيبة ][ في الأصل وم : وشجرة طيبة ] ثانيا .

وضرب مثل الكفر والباطل بالأرض الخبيثة والشجرة الخبيثة ووصفهما بالخبث والذهاب ، فقال : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا /263-أ/ كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) ( تؤتي أكلها كل حين )[ إبراهيم : 24و25 ] وقال ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار )[ إبراهيم : 26 ] .

وقال : ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه )[ الأعراف : 58 ] وضرب مثل المؤمن مرة بالبصير والسميع [ ثانيا ][ ساقطة من الأصل وم ] ومثل الكافر بالأعمى والأصم [ فقال ][ ساقطة من الأصل وم ] ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا )[ هود : 24 ] .

وضرب مثل الكفر مرة بالظلمات ومرة بالرماد والموت ، ومثل الإيمان بالنور والضياء والحياة ونحوه .

فهذه الأمثال [ التي ضربها ][ في الأصل وم : ضرب ] الله عز وجل تخرج كلها مخرج الدعوى ؛ إذ ليس فيها بيان الحق منها وبيان المحق من غير المحق سوى أن فيها : هل يستوي ذا مع ذا ؟ لا يستوي على ما ذكر ، وهل يستوي الطيب والخبيث أو البصير [ والأعمى ، أو السميع والأصم ][ في الأصل وم : والسميع الأصم والأعمى ] أو الميت والحي ، أو الظلمات والنور وأمثالها[ في الأصل وم : وأمثاله ] وكل أهل الأديان ، وإن اختلفت مذاهبهم[ في الأصل وم : مذاهبه هو ] ؛ يقول : كل [ الذي ][ ساقطة من الأصل وم ] أنا عليه هو الحق ، والباطل هو الذي عليه غيري ، وينفي كل عن نفسه العمى[ في الأصل وم : الأعمى ] والصمم وكونه في ظلمة ، ويدعي كونه في النور ، ونحوه .

فليس في نفس الأمثال التي ضربت بيان الحق من الباطل والمحق من غيره . فذلك يعرف بغيرها بالدلائل والحجج والبراهين ، وهو ما ذكر ( وتلك الأمثال نضربها للناس )[ العنكبوت : 43 والحشر : 21 ] .

فالدلائل والحجج والبراهين يعرف الحق من الباطل والمحق من غيره . فللإيمان والحق دلائل وحجج ، يعرف ذووا العقول بالعقول حسنه وطيبه وما يعقب من ثمره[ في الأصل وم : ثمرته ] ، ويبين قبح الكفر والباطل لذوي العقول بالعقول ، واستخباءهم الباطل ، وما يعقب لأهله من الخبث والقبح والشر .

وقال القتبي : ( زبدا رابيا ) أي عاليا على الماء ( ابتغاء حلية ) أي حلي ( أو متاع ) آنية ، يعني من فلز الأرض وجواهرها مثل الرصاص والحديد ونحوهما[ في الأصل وم : ونحوه ] والذهب والفضة حين[ في الأصل وم : حيث ] يعلوها إذا أذيبت مثل زبد الماء ، والجفاء ما رمى به الوادي إلى جنابته يقال : أجفأت القدر بزبدها إذا ألقت زبدها عنها .

وقال أبو عوسجة : ( رابيا ) أي مرتفعا فوق ظهر الماء ، ويقال : أزبد الماء إذا صار له زبد ( ابتغاء حلية ) هو من الحلي من الذهب والفضة مما يتحلى به ( أو متاع ) أي باطلا لا ينتفع به . وأما الجفاء فهو إظهار التهاون وقلة الاكتراث له والاستخفاف . وقال : الجفاء هو الغثاء ، ويقال : قد انجفى الوادي إذا علاه ذلك ، ثم جرى به الماء .

قال عوسجة : والغثاء عندي ما حمله السيل من العيدان والبعر وما يشبه ذلك .

وقال القتبي : قوله تعالى : ( فجعله غثاء أحوى )[ الأعلى : 5 ] أي يابسا .

قال أبو عبيدة : الجفاء هو[ في الأصل وم : الجود ] الجمد ، ويذهب إلى أن الزبد يجمد ويجتمع على الماء ، ثم يذهب بمائها .

وقال الفراء : ( فيذهب جفاء ) أي يذهب سريعا كما جاء .

وقال الشيخ رحمه الله : ويشبه أن يكون المثل الذي ضرب بالماء ، هو للدين ، وهو أن الدين الحق الذي أنزل من السماء واحد ، لكن الناس اتخذوه أديانا متفرقة ومذاهب مختلفة كقوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل )[ الأنعام : 56 ] .

فالدين الذي أمر بسلوكه واتباعه واحد ، وهو كالماء الذي أنزل من السماء واحد صاف ، وهو الأصل ، فحدث منه أشياء لا يعبأ [ بها ، ولا ][ في الأصل : به ، في م : به ولا ] يكترث ؛ فعلى ذلك السبيل [ الحق ][ ساقطة من الأصل وم ] واحد ، أو أن يكون وجه ضرب مثله بالماء ؛ وهو أن الماء إذا أنزل من السماء أنزل طيبا عذبا ، لكن اختلفت ألوانه وطعومه باختلاف جواهر الأرض ، بعضه خرج مالحا أجاجا ، وبعضه مر ، لا ينتفع به ، وبعضه عذب ، وذلك على اختلاف جواهر الأرض ، وإلا كان ينزل من السماء كله عذب طيب فالذي ينتفع به واحد .

فعلى ذلك الدين الذي ينتفع به واحد ، والبواقي لا ينتفع بها كالمياه المرة والمالحة ، أو يكون غيره هذا ، ونحن لا نعرفه ، والله أعلم .

( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ )