قوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ، الإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة . { من قوة } ، أي : من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل و السلاح .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ، ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، وهو على المنبر : ( { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ) .
وبهذا الإسناد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد ابن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا : " إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد ابن زنجويه ، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، ثنا هشام الدستوائي عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال : حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة ) ، قال : فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً ، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن يحيى بن كثير ، عن زيد بن سلام ، عن عبد الله بن زيد الأزرق ، عن عقبة بن عامر الجهني ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة نفر : صانعه ، والممد به ، والرامي في سبيل الله ) .
وروى عن خالد بن زيد ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ومنبله ، وارموا واركبوا ، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته ، فإنه من الحق ، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها ) أو قال ( كفرها ) . قوله تعالى : { ومن رباط الخيل } ، يعني : ربطها واقتناؤها للغزو . وقال عكرمة : القوة الحصون ، ومن رباط الخيل الإناث .
وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها . وعن أبي محيريز قال : كان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشنات والغارات .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، ثنا زكريا ، عن عامر ، ثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم ) . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن حفص ، ثنا ابن المبارك ، ثنا طلحة بن أبي سعيد قال : سمعت سعيداً المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده ، فإن شبعه ، وريه ، وروثه ، وبوله في ميزانه يوم القيامة ) . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الخيل ثلاثة : هي لرجل أجر ، وهي لرجل ستر ، وهي لرجل وزر ، فأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفاً أو شرفين ، كانت آثارها وأوراثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات ، فهي لذلك الرجل أجر ، وأما التي هي له ستر : فرجل ربطها تغنياً وتعففاً ، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها ، فيه له ستر ، وأما التي هي له وزر : فرجل ربطها فخراً ورياءً ، ونواءً لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر ) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } .
قوله تعالى : { ترهبون به } ، تخوفون به .
قوله تعالى : { عدو الله ، وعدوكم وآخرين } ، أي : وترهبون آخرين .
قوله تعالى : { من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } ، قال مجاهد ومقاتل وقتادة : هم بنو قريظة ، وقال السدي : هم أهل فارس ، وقال الحسن وابن زيد : هم المنافقون ، لا تعلمونهم ، لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله ، وقيل : هم كفار الجن .
قوله تعالى : { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } ، يوف لكم أجره .
{ 60 ْ } { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ْ }
أي { وَأَعِدُّوا ْ } لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم . { مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ْ } أي : كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم ، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات ، والبنادق ، والطيارات الجوية ، والمراكب البرية والبحرية ، والحصون والقلاع والخنادق ، وآلات الدفاع ، والرأْي : والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم ، وتَعَلُّم الرَّمْيِ ، والشجاعة والتدبير .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا إن القوة الرَّمْيُ ْ } ومن ذلك : الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال ، ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ْ } وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ، وهي إرهاب الأعداء ، والحكم يدور مع علته .
فإذا كان شيء موجود{[353]} أكثر إرهابا منها ، كالسيارات البرية والهوائية ، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد ، كانت مأمورا بالاستعداد بها ، والسعي لتحصيلها ، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة ، وجب ذلك ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب
وقوله : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْْ } ممن تعلمون أنهم أعداؤكم . ْ{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ } ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به ْ{ اللَّهُ يَعْلَمُهُم }ْ فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم ، ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار .
ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّه } قليلا كان أو كثيرا ْ { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة ، حتى إن النفقة في سبيل اللّه ، تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة . { وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } أي : لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا .
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) .
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ؛ ويخص ( رباط الخيل )لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في " الأرض " لتحرير " الإنسان " . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة : أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ؛ فلا يصدوا عنها ، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني : أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على " دار الإسلام " التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث : أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . والأمر الرابع : أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية ، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيماً للشعائر ، ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ، ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول :
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) . .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة :
( ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ؛ ولتكون كلمة اللّه هي العليا ، وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله :
( وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) . .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي ؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصا للّه " في سبيل اللّه " لتحقيق كلمة اللّه ، ابتغاء رضوان اللّه .
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين ، والضمير في قوله { لهم } عائد على الذين ينبذ إليهم العهد ، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة ، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس : «القوة » ذكور الخيل و «الرباط » إناثها ، وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة : القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي{[5433]} » ثلاثاً ، وقال السدي : القوة السلاح ، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة ، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق{[5434]} فقال : هذا من القوة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، و { الخيل } والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهتة والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة ، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك ، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفاً على قوله { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5435]} وعلى نحو قوله { فاكهة ونخل ورمان }{[5436]} وهذا كثير ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً »{[5437]} هذا في البخاري وغيره ، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً » ، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر ، ولما كانت السهام من أنجع ما ُيتعاطى في الحرب ، وأنكاه في العدو ، وأقربه تناولاً للأرواح ، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة ، صانعة والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به »{[5438]} ، وقال عمرو بن عنبة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة »{[5439]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا »{[5440]} و { رباط الخيل } جمع ربط ككلب وكلاب ، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون الرباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس{[5441]} ، وإن جعلناه مصدراً من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط ، وذلك الذي حض في الآية عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :
«من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها »{[5442]} ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «من رُبُط » بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكُتُب ، كذا نصبه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر{[5443]} .
و{ ترهبون } معناه تفزعون وتخوفون ، والرهبة الخوف ، قال طفيل الغنوي : [ البسيط ]
ويلُ أم حيّ دفعتم في نحورهمُ*** بني كلاب غداة الرعب والرهب{[5444]}
ومنه راهب النصارى ، يقال رهب إذا خاف ، ف { ترهبون } معدى بالهمزة ، وقرأ الحسن ويعقوب «تُرَهّبون » بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف ، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء قال أبو حاتم : وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون » بالياء من تحت وخففها ، فهو على هذا المعدى بالتضعيف ، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله » .
قال القاضي أبو محمد : ذكرها الطبري تفسيراً لا قراءة ، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة ، وقوله { عدو الله وعدوكم } ذكر الصفتين وإن كانت{[5445]} متقاربة إذ هي متغايرة المنحى ، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدواً لله » بتنوين عدو وبلام في المكتوبة{[5446]} ، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب{[5447]} من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد ، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله { وآخرين من دونهم } الآية ، قال مجاهد الإشارة بقوله { وآخرين } إلى قريظة ، وقال السدي : إلى أهل فارس ، وقال ابن زيد : الإشارة إلى المنافقين ، وقالت فرقة : الإشارة إلى الجن ، وقالت فرقة : هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله { لا تعلمونهم } فإذا حملنا قوله { لا تعلمونهم } على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة كان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله { آخرين } إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال : الإشارة إلى الجن ، وإذا جعلنا قوله { لا تعلمونهم } محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال ، وكان العلم متعدياً إلى مفعولين .
قال القاضي أبو محمد : هذا الوجه أشبه عندي ، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وفيه على احتماله نظر ، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبزر معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام ، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جداً والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم ، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون{[5448]} ، ويحسن أن يقدر قوله { لا تعلمونهم } بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم ، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة ، ويحسن أيضاً أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية ، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه ، وقوله { من دونهم } بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون » في كلام العرب و «من دون » يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول ، ومنه المثل : " وأمر دون عبيدة الوذم " {[5449]} تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها ، ولزوم هذا هو في الآخرة ، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة .