البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

{ وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدّو الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون } .

لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولا عدة وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سببلاً للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الارصاد وعلّق ذلك بالاستطاعة لطفاً منه تعالى والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في { لهم } عائد على الكفار المتقدّمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعمّ من بعده .

وقيل : يعود على الذين ينبذ إليهم العهد والظاهر العموم في كل ما يتوقى به على حرب العدوّ مما أورده المفسّرون على سبيل الخصوص والمراد به التمثيل كالرّمي وذكور الخيل وقوّة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وآلات الحرب وعددها والأزواد والملابس الباهية حتى أنّ مجاهداً رؤي يتجهز للجهاد وعنده جوالق فقال هذا من القوة وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول " { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة } ألا وإنّ القوة الرّمي ألا إن القوة الرمي " فمعناه والله أعلم أنّ معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي كما جاء «الحجّ عرفة » وجاء في فضل الرمي أحاديث وعلى ما اخترناه من عموم القوة يكون قوله { ومن رباط الخيل } تنصيص على فضل رباط الخيل إذا كانت الخيل هي أصل الحروب والخير معقود بنواصيها وهي مراكب الفرسان الشجعان ، وقال أبو زيد الرّباط من الخيل الخمس فما فوقها وجماعة ربط وهي التي ترتبط يقال : منه ربط ربطاً وارتبط انتهى ، قال :

تلوم على ربط الجياد وحبسها *** وأوصى بها الله النبيّ محمداً

قال ابن عطية : { ورباط الخيل } جمع ربط ككلب وكلاب ولا يكثر ربطها إلاّ وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرّباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس وإن جعلناه مصدراً من رابط وكان ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط وذلك الذي حضّ في الآية عليه وقال قال صلى الله عليه وسلم :

« من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة انتهى ، فجوّز في رباط أن يكون جمعاً لربط وأن يكون مصدراً لربط والرابط وقوله : لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل لها مصادر مُنقاسة ذكرها النحويون ، وقال الزمخشري والرّباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن تسمى بالرّباط الذي هو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار ومن ربط بضمّ الراء والباء وعن أبي حيوة والحسن أيضاً ربط بضمّ الراء وسكون الباء وذلك نحو كتاب وكتب وكتب ، قال ابن عطية : وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر انتهى ، ولا يتعيّن كونه مصدراً ألا ترى إلى قول أبي زيد إنه من الخيل الخمس فما فوقها وإنّ جماعها ربط وهي التي ترتبط والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها .

وقال عكرمة : { رباط الخيل } إناثها وفسّر القوة بذكورها واستحبّ رباطها بعض العلماء لما فيها من النّتاج كما قال : بطونها كنز ، وقيل : { رباط الخيل } الذكور منها لما فيها من القوة والجلَد على القتال والكفاح والكرّ والفرّ والعدو والضمير في { به } عائد على ما من قوله { ما استطعتم } ، وقيل : على الإعداد ، وقيل : على القوّة ، وقيل : على { رباط } و { ترهبون } ، قالوا : حال من ضمير { وأعدّوا } أو من ضمير { لهم } ويحصل بهذا الارتباط والإرهاب فوائد منها : إنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وباشتداد الخوف قد يلتزمون الجزية أو يسلمون أو لا يعينون سائر الكفار ، وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو و { ترهبون } مشدّداً عدي بالتضعيف كما عدى بالهمزة ، قال أبو حاتم وزعم عمرو أن الحسن قرأ يرهبون بالياء من تحت وخفّفها انتهى ، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليه { لهم } وهم الكفار والمعنى أنّ الكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خوفوا من يليهم من الكفار وأرهبوهم إذ يعلمونهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب فيخافون منكم وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم فهو أشد خوفاً لكم .

وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد : تخزون به مكان ترهبون به وذكرها الطبري على جهة التفسير لا على جهة القراءة وهو الذي ينبغي لأنه مخالف لسواد المصحف ، وقرأ السلمي عدوًّا لله بالتنوين ولام الجر ، قال صاحب اللوامح : فقيل أراد به اسم الجنس ومعناه أعداء الله وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة لأنها نكرة أيضاً لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأنه اسم الفاعل ومعناه الحال والاستقبال ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف وأما { عدوّكم } فيجوز أن يكون كذلك نكرة ويجوز أن يكون قد تعرّف لإعادة ذكره ومثله رأيت صاحباً لكم فقال لي صاحبكم والله أعلم انتهى .

وذكر أولاً { عدوّ الله } تعظيماً لما هم عليه من الكفر وتقوية لذمّهم وأنه يجب لأجل عداوتهم لله أن يقاتلوا ويبغضوا ثم قال { وعدوّكم } على سبيل التحريض على قتالهم إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل والمراد بهاتين الصفتين من قرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب ، قيل ويجوز أن يراد جميع الكفار وآخرين من دونهم أصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة أو مجاز .

قال ابن عطية : { من دونهم } بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاء فدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل : وأمر دون عبيدة الوزم ، قال مجاهد وآخرين : بنو قريظة ، وقال مقاتل : اليهود ، وقال السدّي : أهل فارس ، وقالت فرقة : كفار الجن ورجّحه الطبري واستند في ذلك إلى ما روي من أنّ صهيل الخيل تنفر الجنّ منه وأنّ الشياطين لا تدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وقالت فرقة : هم كل عدوّ للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم ، وقال ابن زيد : هم المنافقون وهذا أظهر لأنه قال { لا تعلمونهم الله يعلمهم } أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة ومن جعله متعلقاً بالنسبة فقدّر مفعولاً ثانياً محذوفاً وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جداً عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّره بعضهم لا تعلمونهم فازغين راهِبين الله يعلّمهم بتلك الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين كما قلنا على جهة الطّعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كلّ من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير في ظهور الإسلام وعلوّه ، وقال القرطبي ما معناه لا ينبغي أن يعين قوله { وآخرين } لأنه تعالى قال { لا تعلمونهم الله يعلمهم } فكيف يدّعي أحد علماً بهم إلا أن يصحّ حديث فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى ، ثم حضّ تعالى على النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل وجهّز عثمان جيش العسرة بألف دينار يوفّ إليكم جزاؤه وثوابه من غير نقص ، وقيل هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب .