الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، يعنى السلاح، وهو الرمي، {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} يعنى كفار العرب، {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم}، يقول: لا تعرفهم يا محمد، يقول: ترهبون فيما استعددتم به آخرين من دون كفار العرب، يعنى اليهود، لا تعرفهم يا محمد، {الله يعلمهم} يقول: الله يعرفهم، يعني اليهود، ثم قال: {وما تنفقوا من شيء} من أمر السلاح والخيل، {في سبيل الله يوف إليكم}، يقول: يوفر لكم ثواب النفقة، {وأنتم لا تظلمون} يقول: وأنتم لا تنقصون يوم القيامة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وأعدّوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله "ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ "يقول: ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الآلات التي تكون قوّة لكم عليهم من السلاح والخيل. "تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللّهِ وَعَدُوّكُمْ" يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدوّ الله وعدوّكم من المشركين...

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سعيد بن شرحبيل، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبد الكريم بن الحرث، عن أبي عليّ الهمدانيّ، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: قال الله: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر «قالَ اللّهُ: وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ ألا أنّ القُوّةَ الرّمْيُ ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ» ثَلاثا...

وأما قوله: "تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ"... [عن] ابن عباس: "تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ" قال: تخزون به عدوّ الله وعدوّكم...

"وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ". اختلف أهل التأويل في هؤلاء الاَخرين من هم وما هم؛

فقال بعضهم: هم بنو قريظة...

وقال آخرون: من فارس... وقال آخرون: هم كل عدوّ للمسلمين غير الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم. قالوا: وهم المنافقون...

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوّه وعدوّهم من المشركين من السلاح والرمي وغير ذلك ورباط الخيل. ولا وجه لأن يقال: عني بالقوّة معنى دون معنى من معاني القوّة، وقد عمّ الله الأمر بها.

فإن قال قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد بين أن ذلك مراد به الخصوص بقوله: «ألا إن القُوّةَ الرّمْيُ». قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مراد بها الرمي خاصة دون سائر معاني القوّة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوّة، لأنه إنما قيل في الخبر: «ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ» ولم يقل دون غيرها. ومن القوّة أيضا السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم، هذا مع وهي سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...

"وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ"

يقول تعالى ذكره: وما أنفقتم أيها المؤمنون من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع أو غير ذلك من النفقات في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدّخر لكم أجوركم على ذلك عنده، حتى يوفيكموها يوم القيامة. "وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ" يقول: يفعل ذلك بكم ربكم فلا يضيع أجوركم عليه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... فأمر الله بالأسباب في الحروب، وإن كان قادرا على نصر أوليائه على عدوه بلا سبب...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بإعداد السلاح والكُرَاع قبل وقت القتال إرهاباً للعدو والتقدم في ارتباط الخيل استعداداً لقتال المشركين.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

أمر الله تعالى المؤمنين أن يعدوا ما قدروا عليه من السلاح وآلة الحرب والخيل وغير ذلك. والإعداد: اتخاذ الشيء لغيره مما يحتاج إليه في أمره... والاستطاعة: معنى تنطاع بها الجوارح للفعل مع انتفاء المنع...

وقوله تعالى "من قوة "أي مما تقوون به على عدوه...

وقوله "ترهبون به عدو الله وعدوكم" فالهاء في (به) راجعة إلى الرباط... والإرهاب: إزعاج النفس بالخوف... والعدو: المراصد بالمكاره لتعديتها إلى صاحبها، والعدو ضد الولي.

وقوله "وآخرين من دونهم" لا تعلمونهم تقديره وترهبون آخرين... وقيل في المعنيين بذلك خمسة أقوال:... الخامس -قال الجبائي: كل من لا تعرفون عداوته داخل فيه. ومعنى "لا تعلمونهم ": لا تعرفونهم...

فمعنى الآية: الأمر بإعداد السلاح والكراع لإخافة أعداء الله بما يملأ صدورهم من الاستعداد لقتالهم، مع تضمن إخلاف ما أنفق في سبيل الله بأحوج ما يكون صاحبه إليه بما تربح فيه تجارته.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أعدوا لقتالِ الأعداءِ ما يبلغ وسعكم ذلك من قوة، وأَتَمُّهَا قوةٌ القلبِ باللهِ، والناسُ فيها مختلفون: فواحِدٌ يَقْوَى قلبُه بموعود نَصْرِه، وآخرُ يَقْوى قَلْبُه بأنَّ الحقَّ عالِمٌ بحاله، وآخر يقوى قلبه لتحققه بأن يشهد من ربه... الإشارة فيه أنه لا يجاهد على رجاء غنيمة ينالها، أو لاشتفاء صدره من قضية حقد، بل قصده أن تكون كلمة الله هي العليا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مِن قُوَّةٍ} من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها... وعن عكرمة: هي الحصون، والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة... ويجوز أن يكون قوله: {وَمِن رّبَاطِ الخيل} تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله: {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] وعن ابن سيرين رحمه الله: أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال: يشترى به الخيل، فترابط في سبيل الله ويغزى عليها، فقيل له: إنما أوصى في الحصون...

{تُرْهِبُونَ به}... والضمير في {بِهِ} راجع إلى ما استطعتم...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلْأَعْدَاءِ بَعْدَ أَنْ أَكَّدَ فِي تَقَدُّمَةِ التَّقْوَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَهَزَمَهُمْ بِالْكَلَامِ، وَالتَّفْلِ فِي الْوُجُوهِ، وَحَفْنَةٍ من تُرَابٍ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبْلِيَ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، بِعِلْمِهِ السَّابِقِ وَقَضَائِهِ النَّافِذِ؛ فَأَمَرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْآلَةِ فِي فُنُونِ الْحَرْبِ الَّتِي تَكُونُ لَنَا عُدَّةً، وَعَلَيْهِمْ قُوَّةً، وَوَعَدَ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى بِأَمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ الْعُلْيَا.

...

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَ من رِبَاطِ الْخَيْلِ}:

الرِّبَاطُ: هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حِرَاسَةً لِلثُّغُورِ أَوْ مُلَازَمَةً لِلْأَعْدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: (رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا).

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الَّذِي يَمُوتُ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ من فِتْنَةِ الْقَبْرِ)...

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، يَعْنِي تُخِيفُونَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَأَعْدَاءَكُمْ من الْيَهُودِ وَقُرَيْشٍ، وَكُفَّارِ الْعَرَبِ.

{وَآخَرِينَ من دُونِهِمْ} يَعْنِي فَارِسَ وَالرُّومَ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرد من صدر منه نقض العهد، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار، وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة، إلا أنه من فروض الكفايات...

ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء. فقال: {ترهبون به عدو الله وعدوكم} وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك الخوف يفيد أمورا كثيرة: أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام. وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية.

وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان.

ورابعها: أنهم لا يعينون سائر الكفار.

وخامسها: أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام...

ثم قال تعالى: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء، كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، ثم فيه وجوه:

الأول: وهو الأصح أنهم هم المنافقون، والمعنى: أن تكثير أسباب الغزو كما يوجب رهبة الكفار فكذلك يوجب رهبة المنافقين...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وذكر أولاً {عدوّ الله} تعظيماً لما هم عليه من الكفر وتقوية لذمّهم وأنه يجب لأجل عداوتهم لله أن يقاتلوا ويبغضوا ثم قال {وعدوّكم} على سبيل التحريض على قتالهم إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل، والمراد بهاتين الصفتين من قرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

... وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعلموا الرمي بالبندي والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال واستد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال فالذي أراده والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سبباً للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} {وَمِن رّبَاطِ الخيل}... وفي الآية إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه قد يكون لضرب الجزية ونحوه مما يترتب على إرهاب المسلمين بذلك {عَدوَّ الله} المخالفين لأمره سبحانه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

علم من الآيات التي قبل هذه أن أهل الكتاب من اليهود الذين عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم العهود التي أمنهم بها على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم قد خانوه ونقضوا عهده وساعدوا عليه أعداءه من المشركين الذين أخرجوه هو ومن آمن به من ديارهم ووطنهم ثم تبعوه إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه لأجل دينهم، وأنه بذلك صار جميع أهل الحجاز الذين كفروا بما جاء به من الحق حربا له، المشركين وأهل الكتاب سواء، فناسب بعد ذلك أن يبين تعالى للمؤمنين ما يجب عليهم في حال الحرب التي كانت أمرا واقعا لم يكونوا هم المحدثين له ولا البادئين بالعدوان فيه، كما أنه سنة من سنن الاجتماع البشري في المصارعة بين الحق والباطل، والقوة والضعف.

وذلك قوله عزَّ وجلَّ: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (60)}.

{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل، والرباط في أصل اللغة: الحبل الذي تربط به الدابة كالمربط (بالكسر) ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها، ورابط الجيش: أقام في الثغر، والأصل أن يربط هؤلاء وهؤلاء خيولهم ثم سمى الإقامة في الثغر مرابطة ورباطا،اه، (من الأساس).

أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب -التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر ولحفظ الأنفس ودعاية الحق والعدل والفضيلة- بأمرين:

أحدهما: إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة.

وثانيها: مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد، والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غرة: قوامه الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على الجمع بين القتال وإيصال أخباره من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها. ولذلك عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها. وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما الدول الحربية إلى هذا العهد التي ارتقت فيه الفنون العسكرية وعتاد الحرب إلى درجة لم يسبق لها نظير بل لم تكن تدركها العقول ولا تتخيلها الأفكار.

ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه. وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: (ألا إن القوة الرمي) قالها ثلاثا، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث «الحج عرفة» بمعنى أن كلا منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يرمي به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك وإن لم يكن كل هذا معروفا في عصره صلى الله عليه وسلم فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه ولو كان قيده بالسهام المعروفة في ذلك العصر فكيف وهو لم يقيده، وما يدرينا لعل الله تعالى أجراه على لسان رسوله مطلقا ليدل على العموم لأمته في كل عصر بحسب ما يرمى به فيه وهنالك أحاديث في الحث على الرمي بالسهام، لأنه كرمي الرصاص في هذه الأيام. على أن لفظ الآية أدل على العموم لأنه أمر بالمستطاع موجه إلى الأمة في كل زمان ومكان كسائر خطابات التشريع حتى ما كان منها واردا في سبب معين.

ومن قواعد الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والبنادق والدبابات والطيارات والمناطيد وإنشاء السفن الحربية بأنواعها ومنها الغواصات التي تغوص في البحر، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب بدليل «ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب» وقد ورد أن الصحابة استعملوا المنجنيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وغيرها. وكل الصناعات التي عليها مدار المعيشة من فروض الكفاية كصناعات آلات القتال...

وأقول: قد جزم العلماء قبله بعموم نص الآية... وأنا لا أدري سببا لالتجاء الآلوسي في المسألة إلى الرأي والاجتهاد، واكتفائه بدخول هذه الآلات في عموم نص الآية بعدم الاستبعاد، إلا أن يكون بعض المعممين في عصره حرموا استعمال هذه الآلات النارية بشبهة أنها من قبيل التعذيب بالنار الذي منعه الإسلام كما يشير إليه قوله: ولا أرى ما فيه من النار الخ.

نعم إن الإسلام دين الرحمة قد منع من التعذيب بالنار كما كان يفعل الظالمون والجبارون من الملوك بأعدائهم كأصحاب الأخدود الملعونين في سورة البروج، ولكن من الجهل والغباوة أن يعد حرب الأسلحة النارية للأعداء الذين يحاربوننا بها من هذا القبيل بأن يقال إن ديننا دين الرحمة يأمرنا أن نحتمل قتالهم إيانا بهذه المدافع وأن لا نقاتلهم بها رحمة بهم مع العلم بأن الله تعالى أباح لنا في التعامل فيما بيننا أن نجزي على السيئة بمثلها عملا بالعدل وجعل العفو فضيلة لا فريضة فقال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى: 40، 41] الخ الآيات، قال أفلا يكون من العدل بل فوق العدل في الأعداء أن نعاملهم بمثل العدل الذي نعامل به إخواننا أو بما ورد بمعنى الآية في بعض الآثار: قاتلوهم بمثل ما يقاتلونكم به؟ وهم ليسوا أهلا للعدل في حال الحرب. نعم ورد في الحديث الصحيح النهي عن تحريق الكفار الحربيين بالنار ولكن هذا ليس منه، على أن علماء السلف وفقهاء الأمصار اختلفوا في حكمه فأباحه بعضهم مطلقا وبعضهم عند الحاجة الحربية كإحراق سفن الحرب ولو لم يكن جزاء بالمثل والجزاء أولى.

وأما قوله تعالى: {ترهبون به عدو الله وعدوكم} فمعناه أعدوا لهم ما استطعتم من القوة الحربية الشاملة لجميع عتاد القتال وما يحتاج إليه الجند ومن الفرسان المرابطين في ثغوركم وأطراف بلادكم حالة كونكم ترهبون بهذا الإعداد أو المستطاع من القوة والرباط عدو الله الكافرين به وبما أنزله، وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر ويناجزونكم الحرب عند الإمكان. والإرهاب: الإيقاع في الرهبة ومثلها الرهب بالتحريك وهو الخوف المقترن بالاضطراب كما قال الراغب. وكان مشركو مكة ومن والاهم هم الجامعين لهاتين العداوتين في وقت نزول الآية عقب غزوة بدر، وفيهم نزل في المدينة {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة:1] وقيل يدخل فيهم أيضا من والاهم من اليهود كبني قريظة. وقيل لا، وإيمان هؤلاء بالله وبالوحي لم يكن يومئذ على الوجه الحق الذي يرضي الله تعالى.

واليهود الذين والَوْهُمْ على عداوته صلى الله عليه وسلم هم المعنيون أو بعض المعنيين بقوله تعالى: {وآخرين من دونهم} أي وترهبون به أناسا من غير هؤلاء الأعداء المعروفين أو من ورائهم {لا تعلمونهم الله يعلمهم} أي لا تعلمون الآن عداوتهم، أو لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم بل الله يعلمهم وهو علام الغيوب. قال مجاهد هم بنو قريظة، وعزاه البغوي إلى مقاتل وقتادة أيضا وقال السدي هم أهل فارس. قال مقاتل وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم هم المنافقون وسيأتي توجيهه، وقال السهيلي المراد كل من لا تعرف عداوته، والمعنى أنه عام فيهم وفي غيرهم من الأقوام الذين أظهرت الأيام بعد ذلك عداوتهم للمسلمين في عهد الرسول ومن بعده كالروم، وعجيب ممن ذكر الفرس في تفسيرها ولم يذكر الروم الذين كانوا أقرب إلى جزيرة العرب، بل قال بعضهم ما معناه إنه يشمل من عادى جماعة المسلمين وأئمتهم من المسلمين أنفسهم وقاتلهم كالمبتدعة الذين خرجوا على الجماعة وقاتلوهم أو أعانوا أعداءهم عليهم.

وقال الحسن هم الشياطين والجن ورووا فيه حديثا عن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق) قال الآلوسي وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه أيضا واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه اه. وهو ظاهر في اختياره له أيضا بظنه أن الحديث صحيح، وبمثل هذه الروايات المنكرة عن المجهولين يصرفون المسلمين عن المقاصد المهمة التي عليها مدار شوكتهم وحياتهم إلى مثل هذا المعنى الخرافي الذي حاصله أن اقتناء الخيل العتاق يرهب الجن ويحفظ الناس من خبلهم، كأنها تعاويذ للوقاية من الجنون، لا عدة لإرهاب العدو، وهو خلاف المتبادر من الآية ومن سائر السياق الذي هو في قتال المحاربين من أعداء المؤمنين، والحديث فيه لم يصح قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورده وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه اه.

... وقال بعضهم بالوقف عن تعيينهم لقوله تعالى لنبيه {لا تعلمهم نحن نعلمهم} ولكن عدم علمهم عند نزول الآية لا ينافي هذا العلم بعد ذلك. والمختار عندنا أن العبارة تشمل كل من ظهرت عداوته بعد ذلك لجماعة المسلمين من أعداء الله ورسوله ومن المبتدعين في دينه الكارهين لجماعة المسلمين...

أقول: وهذا التقييد لإعداد المستطاع من القوة ومن رباط الخيل بقصد إرهاب الأعداء المجاهرين والأعداء المستخفين وغيرهم المعروفين ومن سيظهر من الأعداء للمؤمنين كالفرس والروم دليل على تفضيل جعله سببا لمنع الحرب على جعله سببا لإيقاد نارها: فهو يقول استعدوا لها ليرهبكم الأعداء عسى أن يمتنعوا عن الإقدام على قتالكم، وهذا عين ما يسمى في عرف دول هذه الأيام بالسلام المسلح، وبناء على أن الضعف يغري الأقوياء بالتعدي على الضعفاء، ولكن الدول الاستعمارية تدعي هذا بألسنتها وهي كاذبة في دعواها أنها تقصد بالاستعداد للحرب حفظ السلم العام، وكان يظن أنهم يقصدون السلم الخاص بدول أوروبة وأن الحرب امتنعت منها فأبطلت ذلك الظن الحرب العامة الأخيرة التي كانت أشد حروب التاريخ أهوالا وتقتيلا وتخريبا. والإسلام ليس كذلك لأنه تعبد الناس بهذه النصوص تعبدا، ويؤيد هذا المعنى آية السلم التي تلي هذه الآية.

ثم إنه تعالى حض في هذا المقام على إنفاق المال وغيره مما يعين على القتال فقال: {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم} أي ومهما تنفقوا من شيء نقدا أو غيره قليلا كان أو كثيرا في إعداد المستطاع من القوة والمرابطة في سبيل الله يعطكم الله جزاءه وافيا تاما {وأنتم لا تظلمون} أي والحال أنكم لا تنقصون من جزائه شيئا: أو لا يلحقكم في هذه الحالة ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم لأن القوي المستعد لمقاومة المعتدين بالقوة قلما يعتدي عليه أحد، فإن اعتدى عليه فقلما يظفر به المعتدي وينال منه ما يعد به ظالما له، فأنتم ما ظلمتم بإخراجكم من دياركم وأموالكم إلا لضعفكم، وسيأتي التذكير بذلك الظلم في بيان الإذن الأول للمسلمين بالقتال فهذا مبني على أن إعداد المستطاع من القوة على الجهاد والمرابطة في سبيل الله لا يمكن القيام به إلا بإنفاق المال الكثير فلهذا رغب سبحانه عباده المؤمنين بالإنفاق في سبيله ووعدهم بأن كل ما ينفقونه فيها يوفى إليهم أي يجزون عليه جزاء وافيا إما في الدنيا والآخرة كليهما وإما في الآخرة فقط كما أمر الله رسوله أن يقول للمنافقين {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة:52] الآية وستأتي قريبا في سورة التوبة، والحسنيان فيها هما النصر والغنيمة في الدنيا والشهادة المفضية إلى المثوبة في الآخرة، فيجب على الأمة بذل ما يكفي للإعداد المذكور في الآية، فإن لم يبذلوا طوعا وجب على الإمام الحق العادل إلزام الأغنياء ذلك بحسب استطاعتهم لوقاية الأمة والملة كما قال في سياق أحكام القتال من سورة البقرة: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] فسبيل الله هنا وهنالك هو الجهاد الواقي لأهل الحق من بغي أهل الباطل وإن كان لفظه عاما يشمل كل ما يوصل إلى مرضاته ومثوبته من أعمال البر كما قال تعالى في أول ما نزل من الإذن للمسلمين بالقتال تعليلا له {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 39 41].

فهذا هو الجهاد الإسلامي وهذه هي أحكامه وأصوله وعللها، وهي في جملتها وتفصيلها تفند مقولات أعداء الحق الذين يزعمون أن الإسلام دين قام بالسيف، وغلب بالقهر وسفك الدماء، وقد علم من هذه النصوص التي هي أساس أحكام الدين القطعية في هذا الموضوع وبما تواتر من تاريخه أنه دين قام بالدعوة والإقناع، وكان أول من آمن بهذا الداعي أهل بيته الأدنون: زوجه التي كانت أعلم الناس بحاله، وربيبه ابن عمه علي المرتضى، وعتيقه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأول من بلغته دعوته خارج بيته فعقلها وفقه سرها وأدرك حقيتها من أول وهلة فقبلها بلا تلبث أبو بكر الصديق رضي الله عنه وما زال جمهور قوم الداعي صلى الله عليه وسلم يؤذونه ويصدون عنه ويفتنون من آمن به وأكثرهم من الضعفاء بأنواع التعذيب حتى اضطروهم إلى الهجرة وترك ديارهم ووطنهم، ثم هاجر هو بعد ظهور دعوة الإسلام بعشر سنين، ثم صار هؤلاء المشركون يتبعونهم إلى مهاجرهم يقاتلونهم فيه.

ولما أذن الله لهم بالدفاع بين حكمته وأنهم مظلومون لا ظالمون، و أنه لولا هذا الدفاع لغلب أهل الشرك والباطل والخرافات والمنكرات على أهل الإيمان والحق والعدل والفضائل، وهدموا بيوت الله تعالى لإبقاء هياكل الأصنام وبيوت الأوثان.

ثم وصف هؤلاء المؤمنين بما يعتبر شرطا لإباحة القتال لهم وهو أنهم عند انتصارهم وتمكينهم في الأرض يقيمون الصلاة التي وصفها تعالى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ويؤتون الزكاة التي تقوم بها المصالح المعاشية العامة ويزول بؤس الفقراء والمساكين والغارمين بمشاركتهم للأغنياء في أموالهم بحكم الله المغني لهم لا بمجرد أريحيتهم وتفضلهم، وتعين على السياحة بكفاية أبناء السبيل. ويكفلون حفظ الفضيلة ومنع الرذائل بإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل هذه المقاصد الشريفة من إباحة الجهاد تخالفها الدول الحربية فتبيح المنكرات والفواحش وتفسد الأخلاق.

هذا أول ما نزل من القرآن الكريم في شرعية هذا الجهاد الذي يعيبه المتعصبون المراؤون من الكفار أعداء الإنسانية، ثم نزل من أحكامه ما نحن بصدد تفسيره، ومن أهمه أن يكون الغرض الأول من الاستعداد الحربي لأهل الحق إرهاب أعدائهم أهل الباطل لعلهم يكفون عن البغي والعدوان، فإن لم يفعلوا كان أهل الحق والفضيلة قادرين على حفظهما بالدفاع عنهما، وإضعاف شوكة الباغين المبطلين أو القضاء عليها.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَأَعِدُّوا} لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم. {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب، وتنظيماً للشعائر، ثم تنتهي مهمته! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية. فلا مفر للإسلام -لإقرار منهجه الرباني- من تحطيم تلك القوى المادية، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى، وتقاوم المنهج الرباني.. وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة.. ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني. ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر؛ ولا لتقرير سلطان زعيم، أو دولة، أو طبقة، أو جنس! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية.. إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير، ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير "الإنسان "في "الأرض" من العبودية للعبيد.. هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي! والجهاد الإسلامي...

(وما تنفقوا من شيء -في سبيل الله- يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).. وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله، من كل غاية أرضية، ومن كل دافع شخصي؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي، ليتمحض خالصا للّه "في سبيل اللّه" لتحقيق كلمة اللّه، ابتغاء رضوان اللّه. ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه -منذ الوهلة الاولى- كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول. وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق. وكل حرب تقوم للقهر والإذلال. وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن، أو قوم على قوم، أو جنس على جنس، أو طبقة على طبقة.. ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة.. حركة الجهاد في سبيل الله.. والله -سبحانه- لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب. إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإعداد: التهيئة والإحضار، ودخل في {ما استطعتم} كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة.

والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها...

وتطلق القوة مجازاً على شدّة تأثير شيء ذي أثر، وتطلق أيضاً على سبب شدّة التأثير، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ، وقوته أيضاً سلاحه وعتاده، وهو المراد هنا،...

و {الرباط} صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو... وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطاً، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم ...

... ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري، وبه سَمَّوا رِباط (دمياط) بمصر، ورباط (المُنستير) بتونس، ورباط (سَلا) بالمغرب الأقصى.

وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} في سورة [آل عمران: 200].

وجملة: ترهبون به عدو الله وعدوكم} إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً، ناشئاً عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه، وهو القوة، وإمّا في موضع الحال من ضمير {وأعدّوا}.

وعدو الله وعدوهم: هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة، لأنّها أخصر طريق لِتعريفهم، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم، ومن ذمّهم، أن كانوا أعداء ربّهم، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عُدُّوا أعداءً لهم، فهم أعداء الله؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة، وهم أعداء المسلمين، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره، فعطف {وعَدوَّكم} على {عدوَّ الله} من عطف صفة موصوف واحد

والإرهاب جعل الغير راهباً، أي خائفاً، فإنّ العدوّ إذَا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه، ولم يجرأ عليه، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمناً من أن يغزوهم أعداؤهم، فيكون الغزو بأيديهم: يَغزون الأعداء متى أرادوا، وكانَ الحال أوفق لهم، وأيضاً ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم.

والمراد ب {الآخرين من دونهم} أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيداً، ويتربّص بهم الدوائر، مثل بعض القبائل. فقوله: {لا تعلمونهم} أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام، وقد علمتموهم الآن إجمالاً، أو أريد: لا تعلمونهم بالتفصيل، ولكنّكم تعلمُون وجودهم إجمالاً مثل المنافقين، فالعلم بمعنى المعرفة، ولهذا نصب مفعولاً واحداً.

وقوله: {من دونهم} مؤذن بأنّهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة، ولذلك ذكر {من دونهم} بمعنى: من جهات أخرى، لأنّ أصل (دون) أنّها للمكان المخالف، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة (دون) لأنّ ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب {آخرين}.

وجملة {اللَّه يعلمهم} تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرَين، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي، وهو تعقُّبهم والإغراءُ بهم، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنّهم بمحل عناية الله فهو يُحصي أعداءهم وينبّههم إليهم.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي: للتقوّي، أي تحقيق الخبر وتأكيده، والمقصود تأكيد لازم معناه، أمّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد، وأمّا حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله: {لا تعلمونهم} فلو قيل: ويعلّمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين.

وإذ قد كان إعداد القوَّةِ يستدعي إنفاقاً، وكانت النفوس شحيحة بالمال، تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه، فقال: {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم} فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته.

والتوفية: أداء الحقّ كاملاً، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله، وجعل على الإنفاق جزاء، فسمّى جزاءَه توفية على طريقة الاستعارة المكنية، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجرَ في الدنيا مع أجر الآخرة، ونقل ذلك عن ابن عباس.

وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله، للإشارة إلى أنّ الموفَّى هو الثواب. والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله، كما يقال: وفَّاه دينه، وإنّما وفّاه مماثلاً لديْنه. وقريب منه قولهم: قَضى صلاة الظهر، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد: إمّا مجاز عقلي، أو هو مجاز بالحذف.

والظلم: هنا مستعمل في النقص من الحقّ، لأنّ نقص الحقّ ظلم، وتسمية النقص من الحقّ ظلماً حقيقة. وليس هو كالذي في قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [لكهف: 33].

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{وما تنفقوا} و (ما) هنا شرطية، أي أن تنفقوا في سبيل الله تعالى، سبيل الله تعالى هو الجهاد {يوف إليكم} أي بالبركة في رزقكم وبتسيير الرزق لكم وتسهيل سبل الحياة، والنماء في أموالكم، وبعد ذلك الجزاء في الآخرة، وهي خير وأبقى، وأوفى وأتم بهذا التفسير الدنيوي والنماء في هذه الحياة، والجزاء في الآخرة لا يظلمون لا تنقصون شيئا مما قدمتم.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

والله تعالى بمقتضى هذه الآية يلزم المسلمين بأن يكونوا أقوياء غير ضعفاء، وبأن يكونوا في مستوى كاف من القوة يجعلهم في مأمن من طمع الطامعين، وعدوان المعتدين، إذ هو سبحانه وتعالى أعلم بما سيواجه الإسلام منذ ظهوره في العالم من أحلاف عدائية، ودسائس سياسية وعسكرية، ومؤامرات صليبية وصهيونية وإلحادية، دون انقطاع، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولذلك نزلت هذه الآية المحكمة واضحة كل الوضوح، صريحة كل الصراحة، تحذيرا للمسلمين من الغفلة عما يقويهم، وتذكيرا لهم بما يحيط بهم باستمرار من دسائس أعدائهم ومؤامراتهم، مما يلزم الاستعداد لرده والوقوف في وجهه في كل جيل، دون تهاون ولا إهمال ولا تردد...

وكتاب الله عندما يتحدث عن "القوة "ويدعو المسلمين إلى إعدادها بكل الوسائل لا يقصد بلفظ القوة معناها المادي المجرد وحده، المتمثل في الآلات والأدوات الحربية، وإنما يقصد منها معناها المادي ومعناها الروحي في آن واحد، بل إن القوة الروحية عنده بالنسبة إلى القوة المادية تعتبر كالجوهر بالنسبة للعرض، والروح بالنسبة للجسد، فالقوة الروحية في نظر الدين والأخلاق، والروح المعنوية العالية، في نظر المختصين من رجال الدراسات النفسية والأبحاث العسكرية، هي منبع كل قوة، وأساس كل نصر، وبدونها تضطرب القلوب وتنهار الأعصاب، وتصبح الهزيمة من كل جيش قاب قوسين وعلى الأبواب، لكن إذا كانت قوة الإيمان بالله وتقوى الله تقود جنود الإسلام، في خطواتهم إلى الأمام، فبشرهم من عند الله بالفتح المبين، والنصر والتمكين...

ولعل ذكر "الخيل" هو إنما ورد على وجه التنبيه، نظرا لأن الخيل كانت في العهد الإسلامي الأول أهم شيء في الحرب، وذلك حتى يقيس المسلمون عليها غيرها، ويهتموا في مستقبل الأيام بكل ما يحدث ويتجدد من أدوات القوة ووسائلها الفعالة، فالعبرة أولا وأخيرا إنما هي بإعداد القوة التي لا تضام، والاستعداد التام للعدو الظاهر والخفي على الدوام...

وقوله تعالى في هذا السياق: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم} إشارة إلى أن للإسلام والمسلمين أعداء ألداء غير ظاهرين، وإلى أنه كما يجب على المسلمين أن يستعدوا لأعدائهم التقليديين المعروفين، فعليهم أن يدخلوا في حسابهم دائما أولئك الأعداء المتسترين الذين يعملون ضدهم في السر والخفاء، بينما يواجهونهم بالكلام المعسول واللين لا بالجفاء: {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون}...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

أراد الله للمؤمنين أن يقوموا بعمليّة إعداد القوة العسكرية بكل ما يملكون من إمكاناتٍ وقدرات مادّية، فليس لهم أن يدّخروا جهداً في هذا السبيل، لأن ذلك هو القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها القوة المستقبلة الواثقة بالتماسك والنصر والامتداد، القادرة على ردّ التحدّي بالتحدي المماثل، أو بالأقوى منه... وهكذا تكون القوة الكبيرة البارزة سبيلاً من سبل ردع العدو ومنع الحرب، مما يجعل منها ضرورةً سياسيةً وعسكريةً معاً، فيفرض على القائمين على شؤون المسلمين أن لا ينتظروا حالة إعلان الحرب ليستعدوا، بل لا بد لهم من الاستعداد الدائم في كل وقتٍ، وذلك تبعاً للظروف الموضوعية المحيطة بالواقع السياسي والعسكري الموجود من حولهم، من أجل إرهاب عدوّ الله وعدو المسلمين...

وإذا كان جوّ الآية يوحي بوجوب الاستعداد للحصول على القوّة العسكرية، فإننا نستوحي منها ضرورة الإعداد للقوة من نوعٍ آخر، مما تحتاجه الأمة في تطورها العلمي والاجتماعي والاقتصادي في موقعها السياسي بين الأمم الأخرى، لأن ذلك يحقق لها الاكتفاء الذاتي أو التفوق الواقعي، الذي يفسح لها المجال للتحرك بقوة من موقع استغنائها عن الآخرين، أو من موقع حاجة الآخرين إليها، فنستطيع بذلك أن نتخلّص من الضغوط التي تقيد حريتها في الحركة، أو تفرض الضغوط التي تحتاجها في علاقاتها بالآخرين، وهذا ما يُلزم الأمة بجميع أفرادها أن تستنفر كل طاقاتها في سبيل الوصول إلى المستوى المتقدم في كل المجالات التي تُمثِّل أساس القوة في الحياة، ولتتخلص من كل نقاط الضعف المفروضة عليها من الداخل والخارج، فذلك هو السبيل الأفضل لانطلاقة الإسلام بقوّةٍ في حياة الناس في عالمٍ لا يفهم إلا بلغة القوة. فالحق الذي لا يستند إلى القوة لا يرتكز على أساسٍ ثابتٍ متين...

وإذا كان الوصول إلى هذا المستوى من القوة يحتاج إلى الكثير من المال، فإن على الأمة أن تساهم في ذلك على جميع المستويات، وأن تعتبر ذلك إنفاقاً في سبيل الله، لأن رفع المستوى العلمي والعسكري والاقتصادي للأمة هو من أفضل السبل العملية التي تؤدي إلى تدعيم الحق وتفتح طريق الانتصار في المعركة الطويلة ضد الكفر والكافرين... وقد أراد الله أن يوحي للمؤمنين بأنه سيعوضهم عما أنفقوه في هذا السبيل في الدنيا والآخرة {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فتأخذونه وافياً غير منقوص...