السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرد من صدر منه نقض العهد إلى من خاف منه النقص واتفق لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار بقوله تعالى :

{ وأعدوا لهم } أي : لقتالهم { ما استطعتم من قوّة } الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه ، وفي المراد بالقوّة أقوال .

الأوّل : الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : «وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً » أخرجه مسلم ، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا : «إذا كبسوكم فعليكم بالنبل » ، وفي رواية : ( ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة : تأديب الرجل فرسه ، وملاعبة أهله ، ورميه بقوسه أي : نبله ، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه ، فإنها نعمة تركها أو كفرها ) أخرجه الترمذي .

والثاني : إنها الحصون .

والثالث : إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى : { ومن رباط الخيل } مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكوراً أو إناثاً ، وقال عكرمة : المراد الإناث .

وروي عن خالد بن الوليد أنه قال : لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها ، وعن أبي محيريز أنه قال : كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف ، وإناث الخيل عند البيات والغارات ، وقيل : ربط الفحول أولى ؛ لأنها أقوى على الكرّ والفرّ ، ويدلّ للأوّل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله ، وتصديقاً بوعده ، فإنّ شبعه وريه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة ) يعني حسناته ، وعن عروة البارقيّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ) ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : ( ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة { فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره 7 ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره } ( الزلزلة : 7- 8 ) { ترهبون } أي : تخوفون { به } أي : بتلك القوّة أو بذلك الرباط { عدوّ الله وعدوّكم } أي : الكفار من أهل مكة وغيرهم ، وذلك إنّ الكفار إذا علموا أنّ المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم ، فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سبباً لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين { و } ترهبون { آخرين من دونهم } أي : غيرهم وهم المنافقون لقوله تعالى : { لا تعلمونهم } ؛ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم { الله يعلمهم } أي : إنهم منافقون .

فإن قيل : المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكر الإرهاب ؟ أجيب : بأنّ المنافقين إذا شاهدوا قوّة المسلمين ، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويقطع طمعهم من أن يصيروا غالبين ، فيحملهم ذلك على أن يتركوا الكفر من قلوبهم ، وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان ، وقيل : هم اليهود ، وقيل : الفرس { وما تنفقوا من شيء } وإن قل { في سبيل الله } أي : طاعته جهاداً كان أو غيره { يُوفّ إليكم } قال ابن عباس : أجره ، أي : لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا { وأنتم لا تظلمون } أي : لا تنقصون من الثواب ، ولما سئل ابن عباس عن هذا التفسير تلا قوله تعالى : { آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } ( الكهف ، 33 ) .