فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } أمر سبحانه بإعداد القوة للأعداء الناقضي العهد كما يقتضيه السياق أو للكفار مطلقا كما يقتضيه ما بعده ، والإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه ، ومن لبيان الجنس ، والقوة كل ما يتقوى به في الحرب على العدو ، ومن ذلك السلاح والقسي .

وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر يقول : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي قالها ثلاث مرات " {[852]} ، وقيل هي الحصون والمعاقل ، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعين .

وعن ابن عباس : القوة الرمي والسيوف والسلاح ، وقال ابن الزبير : أمرهم بإعداد الخيل ، وعن عكرمة قال : القوة ذكور الخيل والرباط الإناث ، وعن مجاهد مثله ، وعن ابن المسيب قال : القوة السهم إلى الفرس فما دونه ، وقال عكرمة : الحصون وقيل كل ما هو آلة يستعان بها في الجهاد فهو من جملة القوة المأمور بإعدادها ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ألا إن القوة الرمي لا ينفى كون غير الرمي ليس من القوة فهو كقوله : ( الحج عرفة ) {[853]} وقوله : ( الندم توبة ) {[854]} فهذا لا ينفي اعتبار غيره بل يدل على أن هذا المذكور من أفضل المقصود وأجله ، فكذا هنا بحمل معنى الآية على الاستعداد للقتال في الحرب وجهاد العدو بجيمع ما يمكن من الآلات كالرمي بالنبل والنشاب والسيف والدرع وتعليم الفروسية ، كل ذلك مأمور به لأنه من فروض الكفايات .

{ ومن رباط الخيل } قال أبو حاتم : الرباط من الخيل الخمس فما فوقها وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو ، قال في الكشاف : الرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله ، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال اه والرباط ما تربط به القربة وغيرها والجمع ربط مثل كتاب وكتب ويقال للمصاب ربط الله على قلبه بالصبر كما يقال أفرغ الله عليه الصبر أي ألهمه ، والرباط الذي يبنى للفقراء مولد ويجمع في القياس على ربط بضمتين ورباطات والمرابطة إقامة المسلمين بالثغور للحراسة فيها .

وربط الخيل للجهاد من أعظم ما يستعان به ، قال ابن محيريز : كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشتات والغارات ، وقيل ربط الفحول أولى من الإناث لأنها أقوى على الكر والفر والعدو ، وقيل لفظ الخيل عام يتناول الفحول والإناث فأي ذلك ربط بنية الغزاة كان في سبيل الله .

ومن فسر القوة بكل ما يتقوى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام ، وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر ، واستحباب اتخاذ الخيل وإعدادها وكثرة ثواب صاحبها أحاديث كثيرة لا يسع المقام بسطها وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات .

{ ترهبون به عدو الله وعدوكم } الترهيب التخويف والضمير في به راجع إلى ما في ما استطعتم أو إلى المصدر المفهوم من { وأعدوا } وهو الإعداد فقوله ترهبون إما حال من فاعل { أعدوا } أو من مفعوله أي حصلوا لهم هذا حال كونكم مرهبين أو أعدوه مرهبا به ، وجاز نسبته لكل منهما لأن في الجملة ضميريهما ، والمراد بعدو الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة وغيرهم من مشركي العرب .

{ وآخرين من دونهم } معطوف على عدو الله وعدوكم ومعنى من دونهم من غيرهم ، قيل هم اليهود ، وقيل فارس والروم ، وقيل المنافقون وفيه بعد ، وقيل كفار الجن ، قاله الحسن ورجحه ابن جرير الطبري وهو أبعد ، وقيل المراد كل من لا تعرف عداوته ، قاله السهلي وقيل هم بنو قريظة خاصة ، وقيل غير ذلك والأولى الوقف في تعيينهم لقوله .

{ لا تعلمونهم } أي لا تعرفونهم بأعيانهم ، ومن عينهم قال : أي لا تعلمون بواطنهم وما انطووا عليه من النفاق ، والعلم فيه قولان .

أحدهما : أنه متعدّ لواحد لأنه بمعنى المعرفة ولذلك تعدى لواحد .

والثاني : أنه على بابه فيتعدى لاثنين والثاني محذوف أي لا تعلمونهم فازعين أو محاربين .

وهذان القولان لا يجوز أن يجريا في قوله : { الله يعلمهم } بل يجب أن يقال إنه المتعدي إلى اثنين وأن ثانيهما محذوف للفرق بين العلم والمعرفة بوجوه ( منها ) أن المعرفة تستدعي سبق جهل ومنها أن متعلقها الذوات دون النسب ، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يطلق الوصف بالمعرفة على الله تعالى ، وهذا لا يرد لأنه ليس في الآية إطلاق اسم العارف عليه ، وإنما فيها إطلاق اسم العلم وإن كان بمعنى العرفان{[855]} .

{ وما تنفقوا من شيء في سبيل الله } أي في الجهاد وإن كان يسيرا حقيرا ، وقيل هو أمر عام في كل وجوه الخيرات والطاعات ويدخل فيه نفقة الغزو ، دخولا أوليا { يوف إليكم } أجره وجزاؤه في الآخرة فالحسنة بعشر أمثالها على سبعمائة ضعف على أضعاف كثيرة كما قررنا سابقا ، ويعجل لكم عوضه في الدنيا { وأنتم لا تظلمون } في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله أي من ثوابها بل يصير ذلك إليكم وافيا وافرا كاملا وأن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما { أني لا أضيع عمل عامل منكم } .

والتعبير عنه بالظلم من أن الأعمال غير موجبة الثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلما لبيان كمال نزاهته سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى .


[852]:- مسلم 1917.
[853]:- صحيح الجامع الصغير 3167.
[854]:- الإمام أحمد 1/376.
[855]:- ذكره ابن كثير في"تفسيره" 2/ 322 من رواية ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله ابن غريب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قول الله تعالى: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم} قال: "هم الجن" ثم قال: ورواه الطبراني عن يزيد بن عبد الله بن غريب به وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل" وقال: وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه.