قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } .
لمَّا أوجب على رسوله أن يُشرِّد من صدر منه نقض العهدِ ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النَّقض أمره في هذا الآية بالإعداد للكُفَّارِ .
وقيل : إنَّ الصحابة لمَّا قصدوا الكفار يوم بدر بلا آلة ولا عدة أمرهم الله تعالى ألاَّ يعودوا لمثله ، وأن يعدُّوا للكفار ما أمكنهم من آلة وعدة وقوة . والإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة . والمراد بالقوة : الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح .
قال - عليه الصَّلاة والسلام - على المنبر " ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّميُ " {[17443]}
وقال بعضهم : القوة هي الحصون .
وقال أهل المعاني : هذا عام في كل ما يتقوى به على الحرب .
وقوله عليه الصلاة والسلام " القُوَّةُ هي الرَّمْيُ " لا ينفي كون غير الرمي معتبراً ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " الحَجُّ عرفة " {[17444]} و " النَّدمُ توْبةٌ " لا ينفي اعتبار غيره .
فإن قيل : قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم } كان يكفي ، فلم خصَّ الرمي والخيل بالذكر ؟ .
فالجوابُ : أنَّ الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها الَّتي عقد الخير في نواصيها ، وهي أقوى الدّواب وأشد العدة وحصون الفرسان ، وبها يُجالُ في الميدان ، خصَّها بالذِّكر تشريفاً وأقسم بغبارها تكريماً ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] الآياتُ ، ولمَّا كانت السهامُ من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدوَّ ، وأقربها تناولاً للأرواح ، خصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها ؛ ونظير هذا قوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 89 ] بعد ذكر الملائكة ، ومثله كثير .
قوله " مِن قُوَّةٍ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ الموصول ، والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقديرُ : ما استطعتموه حال كونه بعض القوة ، ويجوزُ أن تكون " مِنْ " لبيان الجِنْسِ .
قوله : " ومِن ربَاطِ " ، جوَّزُوا فيه أن يكون جمع " رَبْط " مصدر : رَبَط يَربط ، نحو : كَعْب وكِعَاب ، وكَلْب وكِلاب ، وأن يكون مصدراً ل " رَبَطَ " ، نحو : صَاحَ صِيَاحاً .
قالوا : لأنَّ مصادر الثلاثي لا تنقاس ، وأن يكون مصدر : " رَابِط " ، ومعنى المفاعلة : أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر ، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، قال معناه ابن عطيَّة .
قال أبُو حيَّان : قوله " مصادرُ الثلاثي غير المزيد لا تَنْقَاسُ " ليس بصحيحٍ ، بل لها مصادر منقاسةٌ ذكرها النحويون .
قال شهابُ الدِّين{[17445]} : " في المسألة خلافٌ مشهور ، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياسِ حتى يرُدَّ عليه بالخلاف ؛ فإنَّهُ قد يكون اختيار أحد المذاهب ، وقال به ، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر " .
وقال الزمخشريُّ : " والرِّباط : الخَيْلُ التي تُرْبط في سبيل الله ويجوز أن يُسمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوزُ أن يكون جمع : رَبيط يعني : بمعنى مَربُوط ، ك : فَصِيل وفِصَال . والمصدرُ هنا مضافٌ لمفعوله "
وقرأ الحسنُ{[17446]} ، وأبو حيوة ، ومالك بن دينار : " ومِنْ رُبُط " بضمتين ، وعن الحسن أيضاً{[17447]} " رُبْط " بضم وسكون ، نحو : كتاب وكُتْب .
قال ابنُ عطيَّة{[17448]} " وفي جَمْعه ، وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ " .
قال شهابُ الدِّين " لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدر ، بل حكى أبو زيدٍ أنَّ " الرِّبَاط " الخمسةُ من الخيلِ فما فوقها ، وأن جمعها " رُبُط " ولو سُلِّم أنَّهُ مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنَّهُ لم تختلف أنواعه ، وقد تقدَّم أنَّ " رباطاً " يجوزُ أن يكون جمعاً ل " رَبْط " المصدر ، فما كان جواباً هناك ، فهو جوابٌ هنا " .
قال القرطبي{[17449]} : " روى أبُو حاتمٍ عن أبي زيد : الرِّباطُ من الخيل : الخَمْسُ فما فوقها ، وجماعته " رُبُط " ، وهي التي ترتبط ، يقال منه : رَبَطَ يَرْبط ربطاً ، وارتبط يرتبط ارتباطاً ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو " قال : [ الكامل ]
أمَرَ الإلهُ بربْطِهَا لعَدُوِّهِ *** في الحَرْبِ إنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوفِّقِ{[17450]}
روي أنَّ رجلاً قال لابن سيرين : إنَّ فلاناً أوْصَى بثلثِ ماله للحصون ، فقال : هي للخيل ؛ ألم تسمع قول الشاعر : [ الكامل ]
ولَقَدْ علِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى *** أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى{[17451]}
قال عكرمة : " رباط الخَيْلِ : الإناث " {[17452]} وهو قول الفرَّاء ؛ لأنها أولى ما يربط لتناسلها ونمائها ، ذكرهُ الواحديُّ .
ولقائل أن يقول : بل حمل اللَّفظ على الفُحُولِ أولى ؛ لأنَّ المقصود برباط الخَيْلِ المحاربة عليها ، والفحول أقوى على الكر والفر والعدو ، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها .
ولمَّا تعارض هذان الوجهان وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي ، وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كانت فحولاً أو إناثاً .
وروي عن خالد بن الوليد " أنه كان لا يركبُ في القتال إلا الإناث ، لقلَّة صهيلها " {[17453]} .
روى ابن محيريز قال : " كان الصَّحابةُ يستحبُّون ذكور الخيل عند الصفوف ، وإناث الخيل عند الشتات والغارات " {[17454]} .
قال عليه الصَّلاة والسَّلام : " الخَيْلُ مَعْقُودٌ بنواصيها الخَيْرُ إلى يومِ القيامةِ الأجْرُ والمَغْنَمُ " {[17455]} وروى أبو هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَن احتبس فرساً في سبيل اللَّهِ إيماناً باللَّهِ ، وتصْديقاً بوعْدِهِ ، كان شبعه وريُّهُ وبولُهُ حسنات في ميزانِهِ يوْم القيامةِ " {[17456]}
وهذه الآية تدل على جواز وقف الخيل والسلاح ، واتخاذ الخزائن والخزان [ لها عدة ] للأعداء ، ويؤيدهُ حديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حقِّ خالد : " وأمَّا خَالدٌ فإِنَّكُم تَظْلمُونَ خالِداً فإنَّه قَد احْتبسَ أدْراعَهُ وأعْتَادَهُ في سبيلِ اللَّهِ " {[17457]} .
وما روي أنَّ امرأة جعلت بعيراً في سبيل اللَّهِ ، فأرادَ زوجُها الحجَّ ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحجَّ فريضةٌ من اللَّهِ " ؛ ولأنَّهُ مال ينتفع به في وجه قربة ، فجاز أن يوقف كالرباع .
ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء . فقال : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ؛ لأنَّ الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ، مستعدين له بجميع الأسلحة والآلات هابوهم .
قوله " تُرْهِبُونَ " يجوزُ أن يكون حالاً من فاعل : " أعِدُّوا " ، أي : حَصِّلُوا لهم هذا حال كونكم مُرْهِبين ، وأن يكُون حالاً من مفعوله ، وهو الموصولُ ، أي : أعِدُّوه مُرْهَباً بِهِ .
وجاز نسبته لكلٍّ منهما ؛ لأنَّ في الجملة ضميريها ، هذا إذا أعدنا الضمير من " بِهِ " على " ما " الموصولة ، أمَّا إذا أعَدْنَاه على الإعِدادِ المدلُولِ عليه ب : " أعِدُّوا " ، أو على " الرِّباط " ، أو على : " القُوَّةِ " بتأويل الحول ؛ فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير " لَهُمْ " ، كذا نقله أبو حيَّان عن غيره ، فقال : " تُرْهبون " قالوا : حال من ضمير " أعدوا " ، أو من ضمير " لهم " ، ولم يتعقبه بنكير ، وكيف يصح جعله حالا من الضمير في " لَهُمْ " ولا رابط بينهما ؟ ولا يصحُّ تقدير ضمير في جملة " تُرهبون " لأخذه معموله . وقرأ الحسنُ{[17458]} ويعقوبُ ، ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو : " تُرَهَّبُون " مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف ، كما عدَّاه العامَّةُ بالهمزةِ ، والمفعول الثَّاني على كلتا القراءتين محذوف ؛ لأنَّ الفعل قبل النَّقلِ بالهمزة ، أو بالتَّضعيف متعدٍّ لواحد ، نحو : " رَهَّبْتُك " والتقدير : تُرهِّبون عدوَّ اللَّه قتالكم ، أو لقاءكم .
وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نقل قراءة الحسن{[17459]} بياء الغيبة وتخفيف " يُرْهبون " ، وهي قراءة واضحة ، فإنَّ الضمير حينئذٍ يرجع إلى من يرجع إليهم ضمير " لَهُمْ " ، فإنَّهُم إذا خافوا خَوَّفُوا من وراءهم .
قوله " عَدُوَّ اللَّهِ " العامَّة قرءوا بالإضافة ، وقرأ السلميُّ{[17460]} منوناً ، و " لِلَّه " بلام الجرِّ ، وهو مفرد ، والمراد به الجنس ، فمعناه : أعداء لله .
قال صاحبُ اللَّوامح " وإنما جعله نكرةً بمعنى العامَّة ؛ لأنَّها نكرةٌ أيضاً لم تتعرَّف بالإضافة إلى المعرفة ؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحالِ ، أو الاستقبال ، ولا يتعرَّف ذلك وإن أضيف إلى المعارف ، وأمَّا " وعَدُوَّكُمْ " فيجوزُ أن يكون كذلك نكرة ، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذكره ، ومثله : رأيت صاحباً لكم ، فقال لي صاحبكم " يعني : أن " عَدُوّاً " يجوز أن يُلمحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّف ، وألاَّ يلمح فيتعرف .
قوله " وآخَرِينَ " نسق على " عَدُوَّ اللَّهِ " ، و " مِن دُونِهِمْ " صفة ل " آخرينَ " .
قال ابن عطيَّة : " مِن دُونِهم " بمنزلة قولك : دون أن تكون هؤلاء ، ف " دون " في كلام العرب ، و " مِنْ دُونِ " تقتضي عدم المذكور بعدها من النَّازلة التي فيها القول ؛ ومنه المثل : [ الكامل ]
. . . *** وأمِرَّ دُونَ عُبَيْدةَ الوَذَمْ{[17461]}
يعني : أنَّ الظَّرفية هنا مجازية ، لأنَّ " دون " لا بد أن تكون ظرفاً حقيقة ، أو مجازاً .
قوله { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } في هذه الآية قولان :
أحدهما : أنَّ " علم " هنا متعدِّيةٌ لواحدٍ ؛ لأنها بمعنى " عرف " ، ولذلك تعدَّت لواحد .
والثاني : أنَّها على بابها ، فتتعدى لاثنين ، والثاني محذوفٌ ، أي : لا تعلمونهم فازعين ، أو محاربين .
ولا بُدَّ هنا من التَّنبيه على شيءٍ ، وهو أنَّ هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله : " اللَّهُ يَعْلمُهُم " بل يجب أن يقال : إنَّها المتعدية إلى اثنين ، وأنَّ ثانيهما محذوف ، لما تقدَّم من الفرق بين العِلْم والمعرفة . منها : أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل ، ومنها : أن متعلقها الذوات دون النسب ، وقد نصَّ العلماءُ على أنهُ لا يجوزُ أن يطلق ذلك - أعني الوصف بالمعرفةِ - على اللَّهِ تعالى .
قوله تعالى : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } .
قال الحسن وابن زيد : " هم المُنافقون " . " لا تعلمُونَهم " ؛ لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله{[17462]} وقال مجاهدٌ ومقاتل : " هم بنُو قريظة{[17463]} " وقال السديُّ : " هم أهل فارس{[17464]} " .
وروي ابنُ جريجٍ عن سلمان بن موسى قال : هم كُفَّارُ الجِن{[17465]} ، لما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } فقال : إنَّهم الجنُّ ، ثم قال : " إنَّ الشَّيطانَ لا يُخَبِّل أحداً في دار فيها فرس حبيس " وعن الحسنِ : أنه قال : " صهيلُ الفرس يرهب الجن " {[17466]}
وقيل : المرادُ العدو من المسلمين ، فكما أنَّ المسلم يعاديه الكافر ، فقد يعاديه المسلم أيضاً .
ثم قال تعالى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله } فهذا عام في الجهادِ ، وفي سائر وجوه الخيرات : " يُوفَّ إليْكُم " .
قال ابنُ عبَّاسٍ : " يُوفَّ لكُم أجره " أي : لا يضيع في الآخرة أجره{[17467]} ؛ { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تنقصون من الثَّواب . ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوله تعالى { آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] .