قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ، والعهد هاهنا هو : اليمين . قال الشعبي : العهد يمين ، وكفارته كفارة يمين ، { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } ، تشديدها ، فتحنثوا فيها . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } ، شهيداً بالوفاء . { إن الله يعلم ما تفعلون } ، واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاماً . قيل : نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرهم الله بالوفاء بها . وقال مجاهد و قتادة : نزلت في حلف أهل الجاهلية .
فلما أمر بما هو واجب في أصل الشرع ، أمر بوفاء ما أوجبه العبد على نفسه ، فقال : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
وهذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه ، من العبادات والنذور والأيمان التي عقدها ، إذا كان الوفاء بها برا ، ويشمل أيضا ما تعاقد عليه هو وغيره ، كالعهود بين المتعاقدين ، وكالوعد الذي يعده العبد لغيره ويؤكده على نفسه ، فعليه في جميع ذلك الوفاء ، وتتميمها مع القدرة . ولهذا نهى الله عن نقضها فقال : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، بعقدها على اسم الله تعالى : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ } ، أيها المتعاقدون { كَفِيلًا } ، فلا يحل لكم أن لا تحكموا ما جعلتم الله عليكم كفيلا ، فيكون ذلك ترك تعظيم الله واستهانة به ، وقد رضي الآخر منك باليمين والتوكيد الذي جعلت الله فيه كفيلا . فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك ، فلتف له بما قلته وأكدته . { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، يجازي كل عامل بعمله ، على حسب نيته ومقصده .
( وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ) . والوفاء بعهد الله يشمل بيعة المسلمين للرسول [ ص ] ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله . والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس ، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع ، ولا تقوم إنسانية . والنص يخجل المتعاهدين أن ينقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله كفيلا عليهم ، وأشهدوه عهدهم ، وجعلوه كافلا للوفاء بها . ثم يهددهم تهديدا خفيا ( إن الله يعلم ما تفعلون ) .
{ وأوفوا بعهد الله } ، يعني : البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } . وقيل : كل أمر يجب الوفاء به ولا يلائمه قوله : { إذا عاهدتم } ، وقيل : النذور . وقيل : الإيمان بالله ، { ولا تنقضوا الأيمان } ، أي : أيمان البيعة ، أو مطلق الأيمان . { بعد توكيدها } ، بعد توثيقها بذكر الله تعالى ، ومنه أكد بقلب الواو همزة . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } ، شاهدا بتلك البيعة ، فإن الكفيل مراع لحال المكفول به ، رقيب عليه . { إن الله يعلم ما تفعلون } ، من نقض الأيمان والعهود .
قوله : { وأوفوا } ، و «عهد الله » ، لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان ، من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة ، وبالجملة : كل ما كان طاعة بين العاهد وبين ربه ، كان فيه نفع للغير أو لم يكن . وقوله : { ولا تنقضوا الأيمان } ، خص في هذه الألفاظ العهود التي تقترن بها أيمان ، تهمماً بها وتنبيهاً عليها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في كل ما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله ، وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق ، فهو الذي قاله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من حلف على يمين ، ثم رأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير . »{[7405]} ويقال تأكيد وتوكيد ، ووكد وأكد وهما لغتان ، وقال الزجاج : الهمزة مبدلة من الواو .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير بين ؛ لأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك ، و { كفيلاً } ، معناه : متكفلاً بوفائكم ، وباقي الآية وعيد ، في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، رواه أبو ليلى عن مزيدة ، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فزادها الإسلام شدة{[7406]} .
قال القاضي أبو محمد : كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة » ، وهذا حديث معنى ، وإن كان السبب بعض هذه الأشياء ، فألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.