قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } الآية ، لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام ، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد .
قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ؛ لقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، وقيل : كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : والوَعْدُ من العهد{[20036]} .
وقال ميمون بن مهران : من عاهدته ، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً ، فإنَّما وفاء العهد لله - تعالى-{[20037]} .
وقال الأصم : المراد منه الجهاد ، وما فرض الله في الأموال من حق ، وقيل : عهد الله ، هو اليمين بالله .
قال الشعبي : العهد يمين الله ، وكفَّارته كفارة يمين ، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه{[20038]} ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ ، فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها ، فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ ، وليكفرْ عن يَمينهِ " {[20039]} .
واعلم أن قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } ، يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه ، ويؤيِّده قوله - عز وجل - بعد ذلك : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، وأيضاً : يجب ألا يحمل العهد على اليمين ؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين ، لكان قوله بعد ذلك : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } تكرار ؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك ؛ إلاَّ إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين ، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر ؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم ، يلتزمه الإنسان باختياره ، ويدخل فيه عهد الجهاد ، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات ، والمؤكدات بالحلف .
قوله : " بَعْدَ تَوكِيدهَا " ، متعلق بفعل النَّهي ، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو ، وفيه لغة أخرى : أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز ، ومعناه : التقوية ؛ وهذا كقولهم : أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ ، وليست الهمزة بدلاً من واو ، كما زعم أبو إسحاق ؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان ، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر ، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك ، ثم قال : " ولا يحسن أن يقال : الواو بدل من الهمزة ، كما لا يحسن أن يقال ذلك في : " أحد " ، إذ أصله : " وحَد " ، فالهمزة بدلٌ من الواو " ، يعني : أنه لا قائل [ بالعكس ]{[20040]} .
وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً ، و " تَوْكيدِهَا " مصدر مضافٌ لمفعوله ، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء ، ولا ثاني له في القرآن ، أعني : أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف .
قوله تعالى : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله } ، الجملة حال : إمَّا من فاعل " تَنْقضُوا " ، وإمَّا من فاعل المصدر ، وإن كان محذوفاً .
المعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها ، و { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } : شهيداً عليكم بالوفاء .
{ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، قالت الحنفيَّة : يمين اللَّغو هي يمين الغموس ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، فنهى عن نقض الأيمان ، فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث ، فوجب ألا يكون من الأيمان .
وقال غيرهم : هي قول الإنسان في معرض حديثه : لا والله ، وبلى والله ؛ لأن قوله - تعالى - : { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد ، وبين غيرها .
واعلم أن قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، عامٌّ دخله التخصيص ؛ لما تقدَّم من قوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا ، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ ، وليُكفر عن يَمينهِ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.