اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (91)

قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } الآية ، لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام ، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد .

قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ؛ لقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] ، { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، وقيل : كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره . قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه - : والوَعْدُ من العهد{[20036]} .

وقال ميمون بن مهران : من عاهدته ، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً ، فإنَّما وفاء العهد لله - تعالى-{[20037]} .

وقال الأصم : المراد منه الجهاد ، وما فرض الله في الأموال من حق ، وقيل : عهد الله ، هو اليمين بالله .

قال الشعبي : العهد يمين الله ، وكفَّارته كفارة يمين ، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه{[20038]} ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ ، فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها ، فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ ، وليكفرْ عن يَمينهِ " {[20039]} .

واعلم أن قوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } ، يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه ، ويؤيِّده قوله - عز وجل - بعد ذلك : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، وأيضاً : يجب ألا يحمل العهد على اليمين ؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين ، لكان قوله بعد ذلك : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } تكرار ؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك ؛ إلاَّ إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين ، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر ؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم ، يلتزمه الإنسان باختياره ، ويدخل فيه عهد الجهاد ، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات ، والمؤكدات بالحلف .

قوله : " بَعْدَ تَوكِيدهَا " ، متعلق بفعل النَّهي ، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو ، وفيه لغة أخرى : أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز ، ومعناه : التقوية ؛ وهذا كقولهم : أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ ، وليست الهمزة بدلاً من واو ، كما زعم أبو إسحاق ؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان ، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر ، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك ، ثم قال : " ولا يحسن أن يقال : الواو بدل من الهمزة ، كما لا يحسن أن يقال ذلك في : " أحد " ، إذ أصله : " وحَد " ، فالهمزة بدلٌ من الواو " ، يعني : أنه لا قائل [ بالعكس ]{[20040]} .

وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً ، و " تَوْكيدِهَا " مصدر مضافٌ لمفعوله ، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء ، ولا ثاني له في القرآن ، أعني : أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف .

قوله تعالى : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله } ، الجملة حال : إمَّا من فاعل " تَنْقضُوا " ، وإمَّا من فاعل المصدر ، وإن كان محذوفاً .

فصل

المعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها ، و { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } : شهيداً عليكم بالوفاء .

{ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، قالت الحنفيَّة : يمين اللَّغو هي يمين الغموس ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، فنهى عن نقض الأيمان ، فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث ، فوجب ألا يكون من الأيمان .

وقال غيرهم : هي قول الإنسان في معرض حديثه : لا والله ، وبلى والله ؛ لأن قوله - تعالى - : { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد ، وبين غيرها .

واعلم أن قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، عامٌّ دخله التخصيص ؛ لما تقدَّم من قوله - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا ، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ ، وليُكفر عن يَمينهِ " .


[20036]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/86).
[20037]:ينظر: المصدر السابق.
[20038]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/86).
[20039]:تقدم.
[20040]:في ب: بذلك.