مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (91)

قوله تعالى { وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون }

اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام ، فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا في تفسير قوله : { بعهد الله } وجوها : الأول : قال صاحب «الكشاف » : عهد الله هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام لقوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها ، أي بعد توثيقها باسم الله . الثاني : أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس : والوعد من العهد ، وقال ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلما كان أو كافرا فإنما العهد لله تعالى . الثالث : قال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق . الرابع : عهد الله هو اليمين بالله ، وقال هذا القائل : إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه ، لأنه عليه السلام قال : " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر " الخامس : قال القاضي : العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ، ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين . ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف ، ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء .

ولقائل أن يقول : إنه تعالى قال : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } فهذا يجب أن يكون مختصا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله : { إذا عاهدتم } يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبرا . ولأنه تعالى قال في آخر الآية : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول ، وأيضا يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين ، لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ، لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين ، ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيها على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية ، وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد ، وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات ، والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين ، وفي قوله : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } مباحث :

البحث الأول : قال الزجاج : يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل منها .

البحث الثاني : قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : يمين اللغو هي يمين الغموس ، والدليل عليه أنه تعالى قال : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان ، فوجب أن يكون كل يمين قابلا للبر والحنث ، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان . واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب : لا والله ، وبلى والله . قال إنما قال تعالى : { بعد توكيدها } للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين .

البحث الثالث : قوله : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } عام دخله التخصيص ، لأنا بينا أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها .

ثم قال : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } هذه واو الحال ، أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلا عليكم بالوفاء ، وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلا بالوفاء بسبب ذلك الحلف .

ثم قال : { إن الله يعلم ما تفعلون } وفيه ترغيب وترهيب ، والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيرا فخير وإن شرا فشر .