فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (91)

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( 91 ) }

{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } ، خص الله سبحانه الإيفاء من جملة المأمورات التي تضمنها قوله : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ، وظاهرة العموم في كل عهد يقع من الإنسان ، من غير فرق بين عهد البيعة وغيره ، وخص هذا العهد المذكور في الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ، وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله ، ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود ، لم يكن ذلك موجبا لقصره على السبب ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وفسره بعضهم باليمين ، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالإيمان بعده ، حيث قال سبحانه :

{ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، أي : بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها بزيادة الأسماء والصفات ، وقيل : إن تأكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مرارا ، وحكى القرطبي عن ابن عمر : أن التوكيد هو أن يحلف مرتين ، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه .

وليس المراد : اختصاص النهي عن النقض بالإيمان المؤكدة لا بغيرها مما لا تأكيد فيه ، فإن تحريم النقض يتناول الجميع ، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من هم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يؤكد منها ، يقال وكد وأكد ، توكيدا وتأكيدا ، وهما لغتان .

وقال الزجاج : الأصل الواو ، والهمزة بدل منها ، وقيل ليست الهمزة بدلا من الواو ، كما زعمه أبو إسحاق ؛ لأن الاستعمالين في المادتين متساويان ، فليس ادعاء كون أحدهما أصلا أولى من الآخر ، وتبع مكي الزجاج في ذلك ، ثم قال : ولا يحسن أن يقال الواو بدل من الهمزة ، ولذلك تبعه الزمخشري أيضا .

وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا ، منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه ) {[1060]} . حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( والله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني . ) {[1061]} وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، ويخص أيضا من هذا العموم يمين اللغو ؛ لقوله سبحانه : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ، ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو ، وقد تقدم بسط الكلام على الأيمان في البقرة .

{ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ، أي : شهيدا إما على التشبيه ، فهو استعارة ، أو باستعماله في لازم معناه ، فهو مجاز مرسل ، وقيل : حافظا ، وقيل : ضامنا ، وقيل : رقيبا ؛ لأن الكفيل يراعي حال المكفول له . { إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ، من وفاء العهد ونقضه ، فيجازيكم بحسب ذلك ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وفيه ترغيب وترهيب .


[1060]:مسلم 1650.
[1061]:مسلم 1649 – البخاري 1476.