الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (91)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " وأوفوا بعهد الله " ، لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ، ويلتزمه الإنسان بالعدل والإحسان ؛ لأن المعنى فيها : افعلوا كذا ، وانتهوا عن كذا ؛ فعطف على ذلك التقدير . وقد قيل : إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام . وقيل : نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء ، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد . والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه . روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية ، لم يزده الإسلام إلا شدة ) ، يعني : في نصرة الحق والقيام به والمواساة . وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق ، قال : اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه{[10040]} ، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول ، أي : حلف الفضائل . والفضول هنا : جمع فضل للكثرة ، كفلس وفلوس . روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ، ما أحب أن لي به حمر النعم ، لو أُدعى به في الإسلام لأجبت ) . وقال ابن إسحاق : تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن علي في مال له ، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة ، فقال له حسين بن علي : احلف بالله لتنصفني من حقي ، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول . قال عبد الله بن الزبير : وأنا أحلف والله لئن دعانا{[10041]} ، لآخذن سيفي ، ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه ، أو نموت جميعا . وبلغت المسور بن مخرمة ، فقال مثل ذلك . وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي ، فقال مثل ذلك . فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه . قال العلماء : فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية ، هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله : ( لا حلف في الإسلام ) . والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم ، وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم ، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين ، وجعل لهم السبيل على الظالمين ، فقال تعالى : " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم{[10042]} " [ الشورى : 42 ] . وفي الصحيح : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) قالوا : يا رسول الله ، هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : ( تأخذ على يديه : في رواية : تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ) . وقد تقدم قوله عليه السلام : ( إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) .

الثانية : قوله تعالى : " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها " ، يقول بعد تشديدها وتغليظها ، يقال : توكيد وتأكيد ، ووكد وأكد ، وهما لغتان .

الثالثة : قوله تعالى : " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " ، يعني : شهيدا . ويقال حافظا ، ويقال : ضامنا . وإنما قال : " بعد توكيدها " ، فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم ، وبين لغو اليمين ، وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك : التوكيد هو حلف الإنسان في الشيء الواحد مرارا ، يردد فيه الأيمان ثلاثا أو أكثر من ذلك ؛ كقوله : والله لا أنقصه من كذا ، والله لا أنقصه من كذا ، والله لا أنقصه من كذا . قال : فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين . وقال يحيى بن سعيد : هي العهود ، والعهد يمين ، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال : هذه غدرة فلان ) . وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة ، وحل ما انعقدت عليه اليمين . وقال ابن عمر : التوكيد هو أن يحلف مرتين ، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه . وقد تقدم في المائدة{[10043]} .


[10040]:في سيرة ابن هشام: "لشرفه وسنه".
[10041]:في سيرة ابن هشام: "لئن دعا به".
[10042]:راجع ج 16 ص 44.
[10043]:راجع ج 6 ص 364.