قوله تعالى : { قال ادخلوا في أمم } ، يعني : يقول الله لهم يوم القيامة ادخلوا في أمم ، أي : مع جماعات .
قوله تعالى : { قد خلت } ، مضت .
قوله تعالى : { من قبلكم من الجن والإنس في النار } ، يعني كفار الأمم الخالية .
قوله تعالى : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } ، يريد أختها في الدين لا في النسب ، فتلعن اليهود اليهود ، والنصارى النصارى ، وكل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع القادة ، ولم يقل أخاها لأنه عنى الأمة والجماعة .
قوله تعالى : { حتى إذا اداركوا فيها } ، أي : تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار .
قوله تعالى : { جميعاً قالت أخراهم } ، قال مقاتل : يعني أخراهم دخولاً النار وهم الأتباع .
قوله تعالى : { لأولاهم } ، أي : لأولاهم دخولا وهم القادة لأن القادة يدخلون النار أولا ، وقال ابن عباس : يعني آخر كل أمة لأولاها ، وقال السدي : أهل آخر الزمان لأولاهم الذين شركوا لهم ذلك الدين .
قوله تعالى : { ربنا هؤلاء } ، الذين .
قوله تعالى : { أضلونا } ، عن الهدى يعني القادة .
قوله تعالى : { فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } ، أي : ضعّف عليهم العذاب .
قوله تعالى : { قال } ، الله تعالى .
قوله تعالى : { لكل ضعف } ، يعني للقادة والأتباع ضعف من العذاب .
قوله تعالى : { ولكن لا تعلمون } . ما لكل فريق منكم من العذاب ، وقرأ أبو بكر ( لا يعلمون ) بالياء ، أي : لا يعلم الأتباع ما للقادة ولا القادة ما للأتباع .
فقالت لهم الملائكة { ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ْ } أي : في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ْ } أي : مضوا على ما مضيتم عليه من الكفر والاستكبار ، فاستحق الجميع الخزي والبوار ، كلما دخلت أمة من الأمم العاتية النار { لَعَنَتْ أُخْتَهَا ْ } كما قال تعالى : { ويَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ْ } { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ْ } أي : اجتمع في النار جميع أهلها ، من الأولين والآخرين ، والقادة والرؤساء والمقلدين الأتباع .
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ْ } أي : متأخروهم ، المتبعون للرؤساء { لِأُولَاهُمْ ْ } أي : لرؤسائهم ، شاكين إلى اللّه إضلالهم إياهم : { رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ْ } أي : عذبهم عذابا مضاعفا لأنهم أضلونا ، وزينوا لنا الأعمال الخبيثة .
{ قَالَ ْ } اللّه { لِكُلٍّ ْ } منكم { ضِعْفٌ ْ } ونصيب من العذاب .
فإذا انتهى مشهد الاحتضار ، فنحن أمام المشهد التالي ، وهؤلاء المحتضرون في النار ! . . ويسكت السياق عما بينهما ، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر . وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار !
( قال : ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ، كلما دخلت أمة لعنت أختها ، حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم : ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار . قال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون . وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل ، فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) .
( ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) .
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس . . هنا في النار . . أليس إبليس هو الذي عصى ربه ؟ وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه ؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه ؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار ؟ . . فادخلوا إذن جميعاً . . ادخلوا سابقين ولاحقين . . فكلكم أولياء . . وكلكم سواء !
ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها ؛ ويملي متبوعها لتابعها . . فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها ، وكيف يكون التنابز فيها :
( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) !
فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه ؛ ويتنكر فيها الولي لمولاه !
( حتى إذا اداركوا فيها جميعاً ) . .
وتلاحق آخرهم وأولهم ، واجتمع قاصيهم بدانيهم ، بدأ الخصام والجدال :
( قالت أخراهم لأولاهم ، ربنا هؤلاء أضلونا ، فآتهم عذاباً ضعفاً من النار ) . .
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم ! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء ، وهم متناكرون أعداء ؛ يتهم بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، ويطلب له من( ربنا )شر الجزاء . . من( ربنا )الذي كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته ؛ وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء ! فيكون الجواب استجابة للدعاء . ولكن أية استجابة ؟ !
{ قال ادخلوا } أي قال الله تعالى لهم يوم القيامة ، أو أحد من الملائكة . { في أمم قد خلت من قبلكم } أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم يوم القيامة . { من الجن والإنس } يعني كفار الأمم الماضية عن النوعين . { في النار } متعلق بادخلوا . { كلما دخلت أمة } أي في النار . { لعنت أختها } التي ضلت بالاقتداء بها . { حتى إذا ادّاركوا فيها جميعا } أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار . { قالت أخراهم } دخولا أو منزلة وهم الأتباع { لأولاهم } أي لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله لا معهم . { ربنا هؤلاء أضلّونا } سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم { فآتهم عذابا ضعفا من النار } مضاعفا لأنهم ضلوا وأضلوا . { قال لكل ضعف } أما القادة فبكفرهم وتضليلهم ، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم . { ولكن لا تعلمون } ما لكم أو ما لكل فريق . وقرأ عاصم بالياء على الانفصال .
هذه حكاية ما يقول الله لهم يوم القيامة بوساطة ملائكة العذاب وعبر عن يقول . ب { قال } لتحقق وقوع ذلك وصدق القصة ، وهذا كثير ، وقوله : { في أمم } متعلق ب { ادخلوا } ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره كائنين أو ثابتين في أمم ، فيكون في موضع الحال من الضمير في { ادخلوا } وقيل { في } بمعنى مع ، وقيل هي على بابها وهو أصوب ، وقوله { قد خلت } صفة ل { أمم } وقوله : { في النار } يصح تعلقه ب { ادخلوا } يصح أن يتعلق ب { أمم } أي في أمم ثابتة أو مستقرة ، ويصح تعلقه بالذكر الذي في { خلت } ومعنى { قد خلت } على هذا التعلق أي قد تقدمت ومضى عليها الزمن وعرفها فيما تطاول من الآباد ، وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت إذ أصلها فيمن مات من الناس أي صاروا إلى خلاء من الأرض ، وعلى التعليقين الأولين لقوله { في النار } فإنما { خلت } حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة ، وقد ذكر الجن لأنهم أعرق في الكفر ، وإبليس أصل الضلال والإغواء ، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار ، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة لأنهم عقلاء مكلفون مبعوث إليهم آمنوا وصدقوا ، وقد بوب البخاري رحمه الله - باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم - وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون تراباً كالبهائم ، وذكر في ذلك حديث مجهولاً وما أراه يصح ، والله أعلم .
والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة . قال السدي : يتلاعن آخرها وأولها ، و { اَّداركوا } معناه تلاحقوا ووزنه تفاعلوا أصله تداركوا أدغم فجلبت ألف الوصل ، وقرأ أبوعمرو «إداركوا » بقطع ألف الوصل ، قال أبو الفتح : هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالاً فذلك إنما يجيء شاذاً في ضرورة الشعر ، في الاسم أيضاً لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع ، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال «ادْركوا » بفتح الراء وبحذف الألف بعد الدال بمعنى أدرك بعضهم بعضاً ، وقرأ حميد «أُدرِكوا » بضم الهمزة وكسر الراء أي أدخلوا في إدراكها ، وقال مكي في قراءة مجاهد إنها «ادَّارَكوا » بشد الدال المفتوحة وفتح الراء ، قال : وأصله إذ تركوا وزنها افتعلوا ، وقرأ ابن مسعود والأعمش «تداركوا » ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ الجمهور «حتى إذا اَّداركوا » بحذف ألف «إذا » لالتقاء الساكنين .