اختلفوا في هذا القائل ، فقال مقاتل : " هو كلامُ خازِنِ النَّارِ{[16099]} " ، وقال غيره : " هو كلام اللَّهِ " ، وهذا الاختلاف مبني على أنَّ الله - تعالى - هل يتكلَّمُ مع الكفار أم لا ؟ ، وقد تقدمت هذه المسألة .
قوله : " فِي أمَمٍ " يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله : " في أمَمٍ " وقوله " في النَّارِ " كلاهما ب " ادْخُلُوا " ، فيجيء الاعتراضُ المشهور وهو كيف يتعلّق حرفا جرٍّ متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد ؟ ، فيجاب بأحد وجهين :
إمَّا أنَّ " في " الأولى ليست للظَّرفية ، بل للمعيّة ، كأنَّهُ قيل : ادخلوا مع أممٍ أي : مصاحبين لهم في الدُّخول ، وقد تأتي " في " بمعنى " مع " كقوله تعالى : { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة } [ الأحقاف : 16 ] .
شَمُوسٌ ودُودٌ فِي حَيَاءٍ وعِفَّةٍ *** رخِيمَةُ رَجْعِ الصَّوْتِ طَيِّبَةُ النَّشْرِ{[16100]}
وإمَّا بأن " في النَّار " بدل من قول " فِي أمَمٍ " وهو بدل اشتمال كقوله : { أَصْحَابُ الأخدود النار } [ البروج : 4 ، 5 ] .
فإنَّ النَّار بدل من الأخدود ، كذلك " في النَّارِ " بدل من " أمَمٍ " بإعادة العامل بدل اشتمال ، وتكونُ الظرفية في [ " في " ] الأولى مجازاً ؛ لأنَّ الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة ، وإنَّما المعنى : ادخلوا في جملة أمَمٍ وغمارهم .
ويجوز أن تتعلّق " فِي أمَم " بمحذوف على أنَّهُ حال أي : كائنين في جملة أمم .
و " فِي النَّارِ " متعلّق ب " خلت " أي : تسبقكم في النَّارِ .
ويجوز أنْ تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ صفة ل " أمَمٍ " ، فتكون " أمم " قد وصفت بثلاثة أوصاف :
الأولى : الجملة الفعليّة ، وهي قوله " قَدْ خَلَتْ " .
والثاني : الجارّ والمجرور ، وهو قوله : { مِن الجن والإنس } .
الثالث : قوله : " فِي النَّارِ " ، والتقدير : في أممٍ خالية من قبلكم كائنة من الجنِّ والإنس ، ومستقرَّة في النَّارِ .
ويجوز أن تتعلَّق " فِي النَّار " بمحذوفٍ أيضاً ، لا على الوَجْهِ المذكور ، بل على كونه حالاً من " أمَمٍ " ، وجاز ذلك وَإنْ كانت نكرة لتخصُّصها بالوصفين المُشَار إليهما .
ويجوز أن يكون حالاً من الضَّميرِ في " خَلَتْ " ؛ إذ هو ضمير الأمَمِ ، وقُدِّمت الجنُّ على الإنس ؛ لأنَّهم الأصل في الإغواء .
قوله : " كُلَّما دَخَلتْ " تقدَّم نظيرها ، وهذه الجملة يحتمل أنتكون صفة ل " أمم " أيضاً ، والعائد محذوفٌ أي : كلما دخلت أمة منهم أي : من الأمَمِ المتقدَّمةِ لعنت أختها ، والمعنى : أن أهل النّار يلعنُ بعضهم بَعْضاً ، ويتبرَّأ بعضهم مِنْ بَعْضٍ كما قال تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] . والمرادُ بقوله أختها أي : في الدّين .
قوله : " حتَّى " هذه غاية لما قبلها ، والمعنى : أنَّهُم يدخلون فضوْجاً فَوْجاً ، لاعناً بعضهم لبعض إلى انتهاء تداركهم فيها .
وقرأ الجمهور : " إذَا ادَّارَكُوا " بوصل الألف وتشديد الدَّال ، والأصلُ : تداركوا ، فلما أريد إدغامُهُ فُعل به ما فُعل ب " ادَّارَأتُمْ " ، وقد تقدَّم تصريفه في البقرة [ 72 ] .
قال مكيٌّ{[16101]} : ولا يستطاع اللفظ بوزنها مع ألف الوصل ؛ لأنَّك تردُّ الزائد أصلياً فتقول : افاعلوا ، فتصير تاء " تفاعل " فاء الفعل لإدغامها في فاء الفِعْلِ ؛ وذلك لا يجوزُ ، فإنْ وزنتها على الأصل فقلت : تَفَاعَلُوا جاز .
وهذا الذي ذكر من كونه لا يمكن وزنه إلا بالأصْلِ ، وهو " تفاعلوا " ممنوع .
قوله : " لأنَّكَ تردّ الزَّائد أصليّاً " .
قلنا : لا يلزم ذلك ، لأنَّا نزنه بلفظه مع همزة الوَصْلِ ، وتأتي بناء التفاعل بلفظها ، فتقولُ : وزن ادَّارَكوا : اتفاعلوا ، فيلفظ بالتاء اعتباراً بأصلها ، لا بما صارت إليه حال الإدغام .
وهذه المسألةُ نصُّوا على نظيرها ، وهو أنَّ تاء الافتعال إذا أبْدِلت إلى حرف مُجَانِسٍ لما قبلها كما تبدل تاء طاء ، أو دالاً في نحو : اصْطَبَر ، واضْطَرَبَ ، وازْدَجَرَ ، وادَّكَرَ ، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا : يُلفظ في الوزن بأصل تَاءِ الافتعال ، ولا يُلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال ، فتقولُ : وزن اصطبر افتعل لا افطعل ، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل ، فكذلك تقولُ هنا : وزن ادَّاركوا اتفاعلوا لا افَّاعلوا ، فلا فرق بين تاء الافتعال والتَّفعال في ذلك .
وقرأ ابْنُ مسعودٍ{[16102]} والأعْمَشُ ، ورويت عن أبي عمرو : تَدَارَكُوا وهي أصل قراءة العامة .
وقرأ أبو عمرو{[16103]} " إذا إِدَّاركوا " بقطع همزة الوصل .
قال ابن جني{[16104]} : " هذا مشكل ، ومثلُ ذلك لا ينقله ارتجالاً ، وكأنَّهُ وقف وقفة مستنكرٍ ، ثم ابتدأ فقطع " .
وهذا الذي يُعتقد من أبي عمرو ، وإلا فكيف يقرأ بما لا يثبت إلا في ضرورة الشِّعْرِ في الأسماء ؟ كذا قال ابنُ جنيٍّ ، يعني أن قطع ألف الوَصْل في الضَّرورة إنَّمَا جاء في الأسماء .
وقرأ حميد{[16105]} " أُدْرِكوا " بضم همزة القطع ، وسكون الدَّال وكسر الراء ، مثل " أخْرِجُوا " جعله مبنياً للمفعول بمعنى : أُدْخِلوا في دركاتها أو أدراكها .
ونقل عن مُجَاهدٍ بْنِ جَبْرٍ قراءتان : فروى عنه مكي " ادَّرَكوا " بوصل الألف وفتح الدال مشدّدة وفتح الراء ، وأصلها " ادْتَرَكوا " على افتعلوا مبنياً للفاعل ، ثم أدغم ، كما أدغم " ادَّان " من الدَّيْن .
وروى عنه غيره " أدْرَكوا " بفتح الهمزة مقطوعة ، وسكون الدَّال وفتح الرّاء ، أي : أدرك بعضُهم بعضاً .
وقال أبُو البقاءِ{[16106]} : وقرئ{[16107]} : " إذَا ادَّاركوا " بألف واحدة ساكنة بعدها دال مشدَّدة ، وهو جمع بين ساكنين ، وجاز في المفنصل كما جاز في المتَّصل ، وقد قال بعضهم : " اثْنَا عَشَر " بإثبات الألف وسكون العَيْنِ ، يعني بالمتصل نحو : " الضَّالين " وجانّ ، ومعنى المنفصل أنَّ ألف " إذَا " من كلمة ، والسَّاكن الثاني من كلمة أخرى .
وَ " ادّاركوا " بمعنى تَلاحَقُوا ، وتقدَّمُ تفسير هذه المادة [ النساء : 78 ] .
و " جميعاً " حال من فاعل " ادَّاركوا " .
قوله : { أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ } يحتمل أن تكون فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة ، والمعنى على هذا كما قال الزمخشريُّ{[16108]} : " أخْرَاهم منزلة ، وهم الأتباع [ والسَّفلة ] ، لأوْلاهم منزلة وهم القادة والرؤساء " .
ويحتمل أن تكون " أخرى " بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل الأوَّل ، لا تأنيث " آخر " الذي للمفاضلة كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] .
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخرة ، وبين أخرى تَأنيث آخر بزنة أفعل للتفضيل ، أن التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء ، كما لا يدلُّ عليه مذكَّرها ، ولذلك يُعطف أمثالُها عليها في نوع واحد تَقُولُ : مررت بامرأة وأخرى وأخرى كما تقول : مررت برجل وآخر وآخر ، وهذه تدلُّ على الانتهاء ، كما يدلُّ مذكَّرها ، ولذلك لا يُعطف أمثالُها عليها ، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة " غير " ، وهذه لا تفيدُ إفادة " غير " .
والظَّاهِرُ في هذه الآية الكريمة أنَّهُمَا ليستا للتَّفضيل ، بل لما ذكرنا .
قال ابن عباس ومقاتل : " أخراهم دخولاً في النار لأولاهم دخولاً فيها{[16109]} " .
واللام في " لأولاهم " للتّعليل أي : لأجل ، ولا يجوزُ أن تكون التي للتّبليغ كهي في قولك : قلت لزيد افعل .
قال الزمخشريُّ{[16110]} : " لأنَّ خطابهم مع اللَّه لا معهم " ، وقد بسط القول قبله في ذلك الزَّجَّاج{[16111]} فقال : " والمعنى : وقالت أخراهم : يا ربَّنا هؤلاء أضلُّونا ، لأولاهم " فذكر نحوه .
قال شهابُ الدِّينِ : وعلى هذا فاللاَّمُ الثَّانية في قوله : " أولاهم لأخْرَاهُمْ " يجوز أن تكون للتَّبليع ، لأنَّ خطابهم معهم بدليل قوله : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } .
قوله : { رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا } يعني : أنَّ الأتباع يقولون : إنَّ المتقدّمين أضلّونا ، يعني : أنَّ القادة أضلونا عن الهدى والدين فأتِهِمْ عذاباً ضعفاً من النَّارِ .
قال أبُو عبيدة " الضِّعفُ : مثل الشَّيء مرةً واحدة " .
قال الأزْهَريُّ : ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله النَّاسُ في مجاز كلامهم ، وقد قال الشَّافِعِيُّ قريباً منه فقال في رجل أوصى : " أعطوه ضِعْفَ ما يُصيبُ وَلَدِي " قال : " يَعطَى مثله مرتين " .
قال الأزْهَرِيُّ{[16112]} : " الوصايَا يستعمل فيها العرف ، وما يتفاهمه النَّاس ، وأما كتاب اللَّهِ فهو عربيٌّ مبينٌ ، ويُرَدُّ تفسيره إلى لغةِ العربِ ، وموضوع كلامها الذي هو صنعه ألْسِنَتِهَا .
والضِّعف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد ، ولا يقتصر به على مثلين ، بل تقول : هذا ضِعْفه أي مِثْلاه ، وثلاثة أمثاله ، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادة غير محصورة ، ألا ترى إلى قوله تعالى تعالى : { فأولئك لَهُمْ جَزَاءُ الضعف } [ سبأ : 37 ] لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلَيْن ، وأوْلَى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثاله كقوله تعالى : { مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] فأقلُّ الضّعف محصور وهو المِثْلُ وأكثره غير محصورٍ " .
ومثل هذه المقالة قال الزَّجَّاجُ أيضاً{[16113]} فإنَّهُ قال : أي عذاباً مضاعفاً ؛ لأنَّ الضعف في كلام العرب على ضربين :
أحدهما : المِثْلُ ، والآخر : أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته إلى ما لا يتناهى ، وقد تقدَّم طرف من هذا في البقرة .
وأما قول الشَّافعيِّ في " الوصيَّة " : إنَّهُ المثل ، فلأن التركة متعلقة بحقوق الورثة ، إلا أنَّا لأجل الوصيّة صرفنا طائفة منها إلى الموصى له ، والقدر المتيقن في الوصيّة هو المثل ، والباقي مشكوك فيه فيأخذ المتيقّن ويطرح المشكوك فيه فلهذا السّبب حملنا الضِّعْفَ في الوصيَّة على المثلين .
قوله : " ضعْفاً " صفة ل " عذاباً ، و " من النَّارِ " يجوز أن يكون صفة ل " عذاباً " ، وأن يكون صفة ل " ضعْفاً " ، ويجوز أن يكون " ضعفاً " بدلاً من " عذاباً " .
قوله : " لِكُلِّ " أي : لكلّ فريق من الأخرى ، والأولى أو القادة والأتباع .
قوله : { ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } قراءة العامّة بتَاءِ الخطاب : إمَّا خطاباً للسَّائلين ، وإمَّا خطاباً لأهل الدُّنيا أي : ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق .
وقرأ أبو بَكْرِ{[16114]} عن عاصمٍ بالغيبة ، وهي تحتمل أن يكون الضَّمير عائداً على الطائفة السّائلة تضعيف العذاب ، أو على الطّائفتين ، أي : لا يعلمون قَدْر ما أعدَّ لهم من العذاب .
فإن قيل : إن كان المراد من قوله : لكلّ أحد من العذاب ضعف ما يستحقه ، فذلك غير جائز ؛ لأنَّهُ ظلم ، وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً{[16115]} ؟ .
فالجوابُ : أنَّ عذاب الكفَّار يزيد فكل ألم يحصل فإنَّهُ يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية ، فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدةٍ لا إلى آخر .