قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } . نزلت في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة فصده المشركون عن البيت بالحديبية ، فصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع العام القابل فيقضي عمرته ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك ورجع في العام القابل في ذي القعدة ، وقضى عمرته سنة سبع من الهجرة ، فذلك معنى قوله تعالى ( الشهر الحرام ) يعني ذي القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم فيه عمرتكم سنة سبع . ( بالشهر الحرام ) يعني ذا القعدة الذي صددتم فيه عن البيت سنة ست .
قوله تعالى : { والحرمات قصاص } . جمع حرمة وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام ، والبلد الحرام وحرمة الإحرام ، والقصاص : المساواة والمماثلة ، وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل ، وقيل : هذا في أمر القتال معناه : إن بدؤوكم بالقتال في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإنه قصاص بما فعلوا فيه .
قوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } . وقاتلوه .
قوله تعالى : { بمثل ما اعتدى عليكم } . سمى الجزاء باسم الابتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ( واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) .
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
يقول تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية ، عن الدخول لمكة ، وقاضوهم على دخولها من قابل ، وكان الصد والقضاء في شهر حرام ، وهو ذو القعدة ، فيكون هذا بهذا ، فيكون فيه ، تطييب لقلوب الصحابة ، بتمام نسكهم ، وكماله .
ويحتمل أن يكون المعنى : إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام{[129]} فقد قاتلوكم فيه ، وهم المعتدون ، فليس عليكم في ذلك حرج ، وعلى هذا فيكون قوله : { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } من باب عطف العام على الخاص ، أي : كل شيء يحترم من شهر حرام ، أو بلد حرام ، أو إحرام ، أو ما هو أعم من ذلك ، جميع ما أمر الشرع باحترامه ، فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه ، فمن قاتل في الشهر الحرام ، قوتل ، ومن هتك البلد الحرام ، أخذ منه الحد ، ولم يكن له حرمة ، ومن قتل مكافئا له قتل به ، ومن جرحه أو قطع عضوا ، منه ، اقتص منه ، ومن أخذ مال غيره المحترم ، أخذ منه بدله ، ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا ؟ خلاف بين العلماء ، الراجح من ذلك ، أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف ، إذا لم يقره غيره ، والزوجة ، والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة [ من الإنفاق عليه ] فإنه يجوز أخذه من ماله .
وإن كان السبب خفيا ، كمن جحد دين غيره ، أو خانه في وديعة ، أو سرق منه ونحو ذلك ، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له ، جمعا بين الأدلة ، ولهذا قال تعالى ، تأكيدا وتقوية لما تقدم : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } هذا تفسير لصفة المقاصة ، وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي .
ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي ، أمر تعالى بلزوم تقواه ، التي هي الوقوف عند حدوده ، وعدم تجاوزها ، وأخبر تعالى أنه { مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : بالعون ، والنصر ، والتأييد ، والتوفيق .
ومن كان الله معه ، حصل له السعادة الأبدية ، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه ، وخذله ، فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد .
ثم يبين حكم القتال في الأشهر الحرم كما بين حكمه عند المسجد الحرام :
( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله ، واعلموا أن الله مع المتقين ) . .
فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يحرم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام . وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان ؛ كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان . تصان فيها الدماء ، والحرمات والأموال ، ولا يمس فيها حي بسوء . فمن أبى أن يستظل بهذه الواحة وأراد أن يحرم المسلمين منها ، فجزاؤه أن يحرم هو منها . والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته ، فالحرمات قصاص . . ومع هذا فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين توضع في حدود لا يعتدونها . فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة وبقدرها :
( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) . .
بلا تجاوز ولا مغالاة . . والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم . وقد كانوا يعلمون - كما تقدم - أنهم إنما ينصرون بعون الله . فيذكرهم هنا بأن الله مع المتقين . بعد أمرهم بالتقوى . . وفي هذا الضمان كل الضمان . .
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به . { والحرمات قصاص } احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص . فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم . كما قال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهو فذلكة التقرير . { واتقوا الله } في الأنصار { ولا تعتدوا } إلى ما لم يرخص لكم . { واعلموا أن الله مع المتقين } فيحرسهم ويصلح شأنهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.