قوله تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } مبتدأ ، خبرُه الجارُّ بعده ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، تقديرُه : انتهاكُ حُرْمة الشَّهْر الحرامِ بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ ، والألفُ واللامُ في الشَّهْر الأوَّل والثَّاني لِلْعهَد ؛ لأنَّهما معلومان عند المخاطبين ؛ فإنَّ الأولَ ذُو القَعْدَةِ من سنة سَبْع ، والثاني من سنة سَتٍّ .
وقرئ{[2797]} . " والحُرْمَات " بسكون الراء ، ويُعْزَى للحسن وقد تقدَّم عند قوله { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] أنَّ جمعَ " فُعْلَةٍ " بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه : هذان الاثنانِ ، وفَتْحُ العين .
في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه :
أحدها : قال ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ ، والضَّحَّاك - رضي الله عنهم - أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم ، وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - خرج عام الحُديبية لِلْعُمرة ، وذلك في ذي القعدة سنة ستٍّ مِنَ الهجرة ، فصدَّه أهلُ مكة عَنْ ذلك ثُمَّ صالحُوه أنْ ينصرف ، ويعودَ في العام القابل ؛ ويتركُوا له " مكَّةَ " ثلاثة أيَّام ؛ حتَّى يقضي عُمْرَتَهُ فانصرَفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - عامهُ ذلك ، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنَة سبعٍ ، ودَخَل مَكَّة ، واعتَمر ؛ فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنَّك دخلت مكَّة في الشهر الحرام ، والقومُ كانُوا صَدُّوكَ في السنةِ الماضية في هذا الشَّهر ؛ فهذا الشهر الحرامُ ؛ بذلك الشهرِ الحرامِ{[2798]} .
وثانيها : قال الحسن : إنَّ الكُفَّار سَمِعُوا أنَّ الله تعالى نهى الرسُولَ - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن المقاتلة في الأشهر الحُرُم ؛ وهو قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ } [ البقرة : 217 ] فأرادوا مقاتلته ، وظنُّوا أنَّهُ لا يُقاتلهم في الأشهر الحُرُم ؛ فأنزل اللَّهُ تعالى في هذه الآية ؛ لبيان الحُكم في هذه الواقعة فقال : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } أي من استحلَّ قتالكم من المشركين من الشَّهر الحرام ، فاستحلّوه أنتم فيه{[2799]} .
وثالثها : قال بعضُ المتكلِّمين{[2800]} : هو أنَّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ، فكيف يمنعنا عن قتالكم ؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام جانبكم ؛ والحاصل في هذه الوجوه : أنَّ حرمة الشَّهر الحرام لما لم تمنعهُم عن الكفر ، والأفعالِ القبيحة ، فكيف جعلوه سبباً في منع القتالِ على الكفر والفساد ؟ !
قوله : " والحرمات قصاصٌ " الحرماتُ : جمع حرمة ؛ كظلمات جمع ظلمة ، وحجرات جمع حجرة ، الحرمة ما منع من انتهاكه ، وجمعها ؛ لأنَّه أراد حُرمة الشَّهر الحرامِ والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام . و " القصاص " : المُساوَاةُ والمُمَاثلة .
والمعنى على الوجه الأوَّل في النُّزول لمَّا أضاعوا هذه الحُرمات في سنة ستٍّ ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع .
وأما على الثَّاني : فالمراد إن أقدمُوا على مقاتلتكم في الشَّهر الحرام ، فقاتلوهم أنتم أيضاً فيه .
قال الزَّجَّاج{[2801]} : وعلم الله بهذه الآية : أنه ليس على المسلمين : أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء ، بل على سبيل القصاص والمماثلة ، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } وبما بعدها ؛ وهو قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } .
وأما على القول الثالث : فقوله " والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ " يعني : حُرمَةُ كلِّ واحدٍ من الشهرين كحرْمة الآخر ، وهما مثلان ، والقِصاصُ هو المثلُ ، ولَمَّا لم يمنعكُم حرمةُ الشَّهر من الكُفْر ، والفِتنة ، والقِتال ، فكيف يمنعُنا عن القتال ؛ فعلى هذا ، فقوله : " والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ " متَّصلٌ بما قبله .
وقيل : هو مقطوعٌ منه ، وهو ابتداء أمرٍ كان في أوَّل الإسلام : أن من انتهك حُرمتك ، نِلتَ منه بمثل ما اعتدى عليك ، ثم نُسِخً ذلك بالقتال .
وقالت{[2802]} طائفةٌ : ما تناولت الآية الكريمة من التعدِّي بين أمة محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والجنايات ونحوها - لم يُنسَخْ ، وجاز لمن تُعُدِّيَ عليه من مال ، أو جرح أن يتعدَّى بمثل ما تُعُدِّي به عليه .
وقوله { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } يجوزُ في " مَنْ " وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةً ، وهو الظاهرُ ؛ فتكونَ الفاء جواباً .
والثاني : أن تكونَ موصولةً ؛ فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر ، وقد تقدَّم نظيره .
قوله : { بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى } في الباء قولان :
أحدهما : أن تكون غير زائدةٍ ، بل تكون معلِّقةً ب " اعْتَدُوا " والمعنى : بعقوبةٍ مثْل جنايةِ اعتدائه .
والثاني : أنها زائدةٌ ، أي : مثل ما اعَْدى به ؛ فتكون : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف ، أي : اعتداءً مماثلاً لاعتدائه ، وإمَّا حالاً من المصدر المحذوف ، كما هو مذهبُ سيبويه - رحمه الله تعالى - أي : فاعتدوا الاعتداء مُشبِهاً اعتداءُه ، و " مَا " يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، فلا تفتقر إلى عائدٍ ، وأن تكون موصولةً ؛ فيكون العائدُ محذوفاً ، أي : بمثل ما اعتدى عليكُم به ، وجاز حذفه ؛ لأنَّ المُضاف إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ قد جُرَّ به العائدُ ، واتَّحد المتعلِّقان وقد تقدَّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء .
فصل في اختلافهم في تسمية المكافأة عدواناً
قال القرطبيُّ{[2803]} : اختلف النَّاس في المكافأة ، هل تُسمَّى عدواناً ، أم لا ؟ فمن قال : ليس في القرآن مجازٌ ، قال : المقابلة عدوانٌ ، وهو عدوانٌ مباحٌ ، كما أنَّ المجاز في كلام العرب كذبٌ مباحٌ ؛ لأن قوله : [ الطويل ]
971 - فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً *** . . . {[2804]}
972 - إِمْتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي{[2805]} *** . . .
973 - شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى{[2806]} *** . . .
ومعلوم أنَّ هذه الأشياء لا تنطق ، وحدُ الكَذِب الإخبارُ عن الشَّيء بخلاف ما هو به .
ومن قال : في القُرآن مجازٌ : سمَّى هذا عُدواناً مجازاً على طريق المُقابلة كقول عمرو بن كلثومٍ : [ الوافر ]
974 - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحدٌ عَلَيْنَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا{[2807]}
975 - ولِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ *** وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالجَهْلِ مُسْرَجُ
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجي فَإِنِّي مُعَوَّجُ{[2808]}
يريد أُكافىءُ الجاهل والمُعوجَّ لا أنَّه امتدح بالجهل والاعوجاج .
قولُهُ " وَاتَّقُوا " قد تقدَّم معنى " التَّقْوَى " .
وقولُهُ : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ، أي : بالمعونَةِ ، والنُّصرة ، والحِفظ ، وهذا من أقوى الدَّلائل على أنَّه ليس بجسمٍ ، ولا في مكانٍ ، إذ لو كان جسماً ، لكان في مكانٍ معيَّن ؛ فكان إمَّا أن يكون مع أحدٍ منهم ، ولم يكن مع الآخر ، أو يكون مع كُلِّ واحدٍ من المُتَّقين جزءُ من أجزائهِ ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.