معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمداً شاعر ، وما يقوله شعر ، فأنزل الله تكذيباً لهم : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } أي : ما يتسهل له ذلك ، وما كان يتزن له بيت من شعر ، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي ، أنبأنا أحمد بن جعفر بن همدان ، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان ، أنبأنا موسى بن إسماعيل ، أنبأنا حماد بن سلمة ، عن علي بن همدان ، حدثنا يوسف بن أبي زيد ، عن الحسن أن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت* كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً* فقال أبو بكر يا رسول الله إنما قال الشاعر : *كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً* فقال أبو بكر ، وعمر أشهد أنك رسول الله ، يقول الله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال : قلت لعائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة . قالت : وربما قال : *ويأتيك بالأخبار من لم تزود*فأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم :*ويأتيك من لم تزود بالأخبار*وقالت : وربما قال : ويأتيك بالأخبار من لم تزود ، وقال معمر عن قتادة : بلغني أن عائشة سئلت : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس ، طرفة :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول : ( ( ويأتيك من لم تزود بالأخبار ) ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال : إني لست بشاعر ولا ينبغي لي " { إن هو } يعني : القرآن ، { إلا ذكر } موعظة ، { وقرآن مبين } فيه الفرائض والحدود والأحكام .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

{ 69 - 70 } { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }

ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، عما رماه به المشركون ، من أنه شاعر ، وأن الذي جاء به شعر فقال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أن يكون شاعرا ، أي : هذا من جنس المحال أن يكون شاعرا ، لأنه رشيد مهتد ، والشعراء غاوون ، يتبعهم الغاوون ، ولأن اللّه تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله ، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ ، وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له ، { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب ، جميع المطالب الدينية ، فهو مشتمل عليها أتم اشتمال ، وهو يذكر العقول ، ما ركز اللّه في فطرها من الأمر بكل حسن ، والنهي عن كل قبيح .

{ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } أي : مبين لما يطلب بيانه . ولهذا حذف المعمول ، ليدل على أنه مبين لجميع الحق ، بأدلته التفصيلية والإجمالية ، والباطل وأدلة بطلانه ، أنزله اللّه كذلك على رسوله .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة . . قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية . وقضية البعث والنشور . . تستعرض في مقاطع مفصلة . مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة . كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها . ويتمثل هذا المعنى مركزاً في النهاية في الآية التي تختم السورة : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) . . فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم . وهي خلقت الإنسان من نطفة . وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة . وهي جعلت من الشجر الأخضر ناراً . وهي أبدعت السماوات والأرض . وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود . . وذلك قوام هذا المقطع الأخير . .

( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .

وردت قضية الوحي في أول السورة : ( يس والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . . . ) . . والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه شاعر ؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر . وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك . وأن ما جاءهم به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قول غير معهود في لغتهم . وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر . إنما كان هذا طرفاً من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] في أوساط الجماهير . معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر ، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه .

وهنا ينفي الله - سبحانه - أنه علم الرسول الشعر . وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم . فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله . .

ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : وما ينبغي له فللشعر منهج غير منهج النبوة . الشعر انفعال . وتعبير عن هذا الانفعال . والانفعال يتقلب من حال إلى حال . والنبوة وحي . على منهج ثابت . على صراط مستقيم . يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله . ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة ، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال .

والنبوة اتصال دائم بالله ، وتلق مباشر عن وحي الله ، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله . بينما الشعر - في أعلى صوره - أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته . فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد ، وفورة لحم ودم ! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس . هذه - في أعلى صورها - أشواق تصعد من الأرض . وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء . .

( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) . .

ذكر وقرآن . . وهما صفتان لشيء واحد . ذكر بحسب وظيفته . وقرآن بحسب تلاوته . فهو ذكر لله يشتغل به القلب ، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان . وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

وقوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } : يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم{[24822]} : أنه ما علمه الشعر ، { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي : وما هو في طبعه ، فلا يحسنه ولا يحبه ، ولا تقتضيه جِبِلَّته ؛ ولهذا وَرَدَ أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم ، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم يتمه .

وقال أبو زُرْعة الرازي : حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد ، عن أبيه ، عن الشعبي أنه قال : ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكره ابن عساكر في ترجمة " عتبة بن أبي لهب " الذي أكله السَّبُع بالزرقاء . {[24823]}

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن{[24824]} - هو البصري - قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت :

كَفَى بالإسْلام والشيْب للمرْء نَاهيًا

فقال أبو بكر : يا رسول الله :

كَفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا . . .

قال أبو بكر ، أو عمر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }{[24825]} .

وهكذا روى البيهقي في الدلائل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للعباس بن مرداس السلمي : " أنت القائل :

أتجعل نَهبي ونَهْب العُبَيد بين الأقرع وعيينة " .

فقال : إنما هو : " بين عيينة والأقرع " فقال : " الكل سواء " . {[24826]}

يعني : في المعنى ، صلوات الله وسلامه عليه .

وقد ذكر السهيلي في " الروض الأنف " لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه ، عليه السلام ، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها ، حاصلها شَرَفُ الأقرع بن حابس على عُيَيْنَة بن بدر الفزاري ؛ لأنه ارتد أيام الصديق ، بخلاف ذاك ، والله أعلم .

وهكذا روى الأموي في مغازيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر ، وهو يقول : " نُفلق هَامًا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . " .

فيقول الصديق ، رضي الله عنه ، متمما للبيت :

. . . . . مِنْ رجَال أعزَّةٍ *** عَلَيْنَا وَهُم كَانُوا أعَقَّ وَأظلما

وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له ، وهي في الحماسة . {[24827]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا مغيرة ، عن{[24828]} الشعبي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر ، تمثل فيه ببيت طَرَفَة :

ويَأْتِيكَ بالأخْبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وهكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " من طريق إبراهيم بن مهاجر ، عن الشعبي ، {[24829]} عنها . ورواه الترمذي والنسائي أيضًا من حديث المقدام بن شُرَيْح بن هانئ ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، كذلك . ثم قال{[24830]} الترمذي . هذا حديث حسن صحيح . {[24831]}

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أسامة ، عن زائدة ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار :

وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

ثم قال : رواه{[24832]} غير زائدة ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن عائشة . {[24833]}

وهذا في شعر طرفة بن العبد ، في معلقته المشهورة ، وهذا المذكور [ هو عجز بيت ]{[24834]} منها ، أوله :

سَتُبْدي لكَ الأيامُ مَا كُنْتَ جَاهلا *** وَيَأتيك بالأخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تَبِع لهُ *** بَتَاتا ولم تَضرب له وَقْتَ مَوْعِدِ{[24835]}

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الحافظ ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم - وكيل المتقي ببغداد - حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير ، حدثنا علي بن عمرو الأنصاري ، حدثنا سفيان بن عيينة{[24836]} ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط ، إلا بيتا واحدًا . {[24837]}

تَفَاءلْ بما تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا *** يُقَالُ لِشَيْءٍ كَانَ إلا تَحَقَّقَا{[24838]}

سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزّي عن هذا الحديث ، فقال : هو منكر . ولم يعرف شيخ الحاكم ، ولا الضرير .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة : قيل لعائشة : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان أبغضَ الحديث إليه ، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس ، فيجعل أوله آخره ، وآخره أوله . فقال أبو بكر ليس هكذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي " . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهذا لفظه . {[24839]}

وقال معمر عن قتادة : بلغنى أن عائشة سُئلت : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت : لا إلا بيت طَرَفَة :

سَتُبْدي لكَ الأيامُ مَا كُنْتَ جَاهلا *** وَيَأْتيك بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

فجعل يقول : " مَن لم تُزَوّد بالأخبار " . فقال أبو بكر : ليس هذا هكذا . فقال : " إني لست بشاعر ، ولا ينبغي لي " {[24840]}

وثبت في الصحيحين أنه ، عليه الصلاة والسلام ، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة ، ولكن تبعًا لقول أصحابه ، فإنهم يرتجزون وهم يحفرون ، فيقولون :

لاهُمَّ لوْلا أنت{[24841]} مَا اهْتَدَيْنَا مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا

فَأَنزلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّت الأقْدَامَ إنْ لاقَيْنَا

إنّ الألى قَدْ بَغَوا عَليْنَا *** إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

ويرفع صوته بقوله : " أبينا " ويمدها{[24842]} . وقد روي هذا بزحاف في الصحيح أيضًا . وكذلك ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب البغلة ، يُقدم بها في نحور العدو :

أنا النَّبِيّ لا كَذِبْ *** أنَا ابْنُ عُبْد المُطَّلِبْ{[24843]}

لكن قالوا : هذا وقع اتفاقًا من غير قصد لوزن شعر ، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه .

وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جُنْدَب بن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فَنَكِبت أصبعه ، فقال :

هَلْ أنْت إلا إصْبَعٌ دَمِيت *** وفي سَبيل الله مَا لَقِيت{[24844]}

وسيأتي عند قوله تعالى : { إِلا اللَّمَمَ } [ النجم : 32 ] إنشاد{[24845]}

إنْ تَغْفر اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأيُّ عَبْدٍ لكَ مَا ألَمَّا

وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما عُلِّم شعرًا ولا ينبغي له ؛ فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم ، الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] . وليس هو{[24846]} بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش ، ولا كهانة ، ولا مفتعل ، ولا سحر يُؤثر ، كما تنوعت فيه أقوال الضُّلال{[24847]} وآراء الجُهَّال . وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعًا وشرعًا ، كما رواه أبو داود قال :

حدثنا عبيد الله بن عُمَر ، حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا شرحبيل بن يزيد المَعَافري ، عن عبد الرحمن{[24848]} بن رافع التنوخي قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول{[24849]} : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ]{[24850]} : ما أبالي ما أوتيت إن أنا شَربت ترياقًا ، أو تعلقت تميمة ، أو قلت الشعر من قبل نفسي " . تفرد به أبو داود . {[24851]}

وقال{[24852]} الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن الأسود بن شيبان ، عن أبي نوفل قال : سألتُ عائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع عنده الشعر ؟ فقالت : كان أبغض الحديث إليه . وقال عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك . {[24853]}

وقال أبو داود : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ، خير له من أن يمتلئ شعرًا » . تفرد به من هذا الوجه ، وإسناده على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . {[24854]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا بريد ، حدثنا قَزَعةُ بن سُوَيْد الباهلي ، عن عاصم بن مَخْلَد ، عن أبي الأشعث ، الصنعاني( ح ) وحدثنا الأشيب فقال : عن ابن عاصم ، عن [ أبي ]{[24855]} الأشعث{[24856]} عن شَدَّاد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة ، لم تقبل له{[24857]} صلاة تلك الليلة " . {[24858]}

وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة . والمراد بذلك نظمه لا إنشاده ، والله أعلم . على أن الشعر فيه ما هو مشروع ، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رَوَاحة ، وأمثالهم وأضرابهم ، رضي الله عنهم أجمعين . ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب ، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية ، ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي الله صلى الله عليه وسلم : " آمن شعره وكفر قلبه " . {[24859]} وقد أنشد بعض الصحابة منه للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت ، يقول عقب كل بيت : " هيه " . يعني يستطعمه ، فيزيده من ذلك . {[24860]}

وقد روى أبو داود من حديث أُبي بن كعب ، وبُريدة بن الحُصَيْب{[24861]} ، وعبد الله بن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من البيان سحرًا ، وإن من الشعر حكما " {[24862]} .

ولهذا قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم ما علمه الله شعرًا ، { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي : وما يصلح له ، { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي علمناه ، { إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره . ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا }


[24822]:- في أ : "صلوات الله وسلامه عليه.
[24823]:- لم أجد ترجمته فيما بين يدي من تاريخ دمشق، ولا في المختصر لابن منظور.
[24824]:- في ت : "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الحسن".
[24825]:- ورواه ابن سعد في الطبقات (1/382) من طريق عارم عن حماد بن زيد عن على بن زيد عن الحسن به مرسلاً.
[24826]:- دلائل النبوة للبيهقي (5/181).
[24827]:- الحماسة لأبي تمام (1/107).
[24828]:- في ت : "وروى الإمام أحمد بإسناده إلى".
[24829]:- المسند (6/31) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10834).
[24830]:- في ت : "وقال".
[24831]:- سنن الترمذي برقم (2848) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10835) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
[24832]:- في س : "ورواه".
[24833]:- رواه ابن سعد في الطبقات (1/383) من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عكرمة قال : سئلت عائشة فذكره نحوه.
[24834]:- زيادة من أ.
[24835]:- انظر ديوان طَرَفَةَ بن العبد ص (66).
[24836]:- في س : "حاشية بخط جمال الدين المزي هذا موضوع على ابن عيينة".
[24837]:- في أ : "واحدا فقال".
[24838]:- السنن الكبرى للبيهقي (7/43) وقال : "لم أكتبه إلا بهذا الإسناد، وفيهم مَنْ يجهل حاله".
[24839]:- تفسير الطبري (23/19).
[24840]:- رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/117) عن معمر عن قتادة، به.
[24841]:- في ت : "لولا الله".
[24842]:- صحيح البخاري برقم (7236) وصحيح مسلم برقم (1803) من حديث البراء بن عازب، رضي الله عنه.
[24843]:- صحيح البخاري برقم (2864) وصحيح مسلم برقم (1776).
[24844]:- صحيح البخاري برقم (2802) وصحيح مسلم برقم (1796).
[24845]:- في أ : "إنشاده".
[24846]:- في أ : "هذا".
[24847]:- في ت : "أقوال أهل الضلال".
[24848]:- في أ : "عبد الله".
[24849]:- في ت : "كما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال".
[24850]:- زيادة من ت، س، وأبي داود.
[24851]:- سنن أبي داود برقم (3869).
[24852]:- في ت : "وروى".
[24853]:- المسند (6/148).
[24854]:- سنن أبي داود برقم (5009).
[24855]:- زيادة من ت، س، والمسند.
[24856]:- في ت : " وروى الإمام أحمد بإسناده".
[24857]:- في ت : "لم يقبل الله له".
[24858]:- المسند (4/125).
[24859]:- رواه ابن عبد البر في التمهيد (4/7) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنه.
[24860]:- رواه مسلم في صحيحه برقم (2255) من حديث الشريد، رضي الله عنه.
[24861]:- في أ : "الخصيف".
[24862]:- سنن أبي داود برقم (5010 - 5012).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورد قول من قال من الكفرة إنه شاعر ، وإن القرآن شعر بقوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر ، ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلاً كسر وزنه ، وإنما كان يحرز المعنى فقط وأنشد يوماً قول طرفة : [ الطويل ]

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً . . . ويأتيك من لم تزوده بالأخبار{[9808]}

وأنشد يوماً وقد قيل له من أشعر الناس ؟ فقال الذي يقول : [ الطويل ]

ألم ترياني كلما جئت طارقاً . . . وجدت بها وإن لم تطيب طيبا{[9809]}

وأنشد يوماً :

أتجعل نهبي ونهب العبي . . . د بين الاقرع وعيينة ؟{[9810]}

وقد كان صلى الله عليه وسلم ربما أنشد البيت المستقيم في النادر وروي أنه أنشد بيت ابن رواحة : [ الطويل ]

يبيت يجافي جنبه عن فراشه . . . إذا استثقلت بالمشركين المضاجع{[9811]}

وقال الحسن بن أبي الحسن : أنشد النبي صلى الله عليه وسلم

* كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً *

، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : نشهد أنك رسول الله إنما قال الشاعر :

* كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا{[9812]}

حكاه الثعلبي .

قال القاضي أبو محمد : وإصابته الوزن أحياناً لا يوجب أنه يعلم الشعر ، وكذلك قد يأتي أحياناً في نثر كلامه ما يدخل في وزن كقوله يوم حنين ، * أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب *{[9813]}

كذلك يأتي في آيات القرآن الكريم{[9814]} وفي كل كلام وليس كله بشعر ولا هو في معناه .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية تقتضي عندي غضاضة على الشعر ولا بد ، ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : كان الشعر أبغض الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتمثل بشعر أخي قيس طرفة فيعكسه ، فقال له أبو بكر : ليس هكذا ، فقال : «ما أنا بشاعر وما ينبغي لي »{[9815]} ، وقد ذهب قوم إلى أن الشعر لا غض عليه ، قالوا وإنما منعه الله من التحلي بهذه الحلية الرفيعة ليجيء القرآن من قبله أغرب فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن إن هذا من تلك القوى .

قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبيان في النثر في المرتبة العليا ، ولكن كلام الله تعالى يبين بإعجازه ويبرز برصفه ويخرجه إحاطة علم الله من كل كلام ، وإنما منعه الله تعالى من الشعر ترفيعاً له عما في قول الشعراء من التخييل ، وتزويق القول ، وأما القرآن فهو ذكر الحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهكذا كان أسلوب كلامه عليه السلام لأنه لا ينطق عن الهوى ، والشعر نازل الرتبة عن هذا كله ، والضمير في { علمناه } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً ، والضمير في { له } يحتمل أن يعود على محمد ويحتمل أن يعود على القرآن ، وإن كان لم يذكر لدلالة المجاورة عليه ، وبين ذلك قوله تعالى : { إن هو } .


[9808]:والبيت في وزنه الصحيح: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
[9809]:والبيت في وزنه: ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
[9810]:وصحة البيت: أتجعل نهبي ونهب العبيـ د بين عيينة والأقرع؟
[9811]:جفا الجنب عن الفراش: نبا وبعُد ولم يطمئن عليه، وجافيته فتجافى. والمعنى أنه يترك فراشه وينهض للعبادة إذا أحب المشركون دفء الفراش ولزموا مضاجعهم، والبيت لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه.
[9812]:البيت لسحيم عبد بني الحسحاس، وهو بتمامه: هريرة ودع إن تجهزت غاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
[9813]:قال أبو الحسن الأخفش:"هذا ليس بشعر"، وقال الخليل في كتاب العين:"إن ما جاء من السجع على جزئين لا يكون شعرا"، وروي عنه أن هذا من منهوك الرجز، وقد قيل: إنه لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقوف على الباء في(كذب)، و(عبد المطلب) ولا يعرف أحد كيف نطقه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رأي ابن العربي أنه نطقه بالباء المرفوعة، وقال النحاس: قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب. ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم أيضا: "هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" ولا يكون شعرا إلا بكسر التاء من(دميت) ومن(لقيت)، فغن سكنت لا يكون شعرا.
[9814]:ومن ذلك قوله تعالى:{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقوله:{وجفان كالجواب وقدور راسيات}.
[9815]:أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه، قال: بلغني أنه قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قال: كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، يجعل آخره أوله وأوله آخره، ويقول:"ويأتيك من لم تزد بالأخبار"، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي).