السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

ولما منح الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم غرائز من الفضائل مما عجز عنها الأولون والآخرون ، وأتى بقرآن أعجز الإنس والجن ، وعلوم وبركات فاقت القوى ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وكذباً وعدواناً قال تعالى : { وما علمناه } أي : نحن { الشعر } فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم ، ورويِّ مقصود وقافية يلتزمها ويدير المعاني عليها ويحتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير وغيره في قصائدهم { وما أنا من المتكلّفين } ( ص : 86 ) لأن ذلك ، وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا ؛ لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافية ملتزمة على أن فيه نقيصة أخرى وهي أعظم ما يوجب النفرة عنه وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني ، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ومكناه من سائر وجوه الفصاحة ، ثم أسكنا فيه ينابيع الحكمة ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة بما ألهمنا إياه ، ثم ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرناه به من جوامع الكلم والحكم فلا تكلف عنده أصلاً : «ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم » .

ولما كان الشعر مع ما يبنى عليه من التكلف الذي هو بعيد جداً عن سجايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف شرفهم بما يكسب مدحاً وهجواً فيكون أكثره كذباً إلى غير ذلك .

قال تعالى { وما ينبغي له } أي : وما يصح له الشعر ولا يسهل له على ما أختبرتم من طبعه نحواً من أربعين سنة ؛ لأن منصبه أجل وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً أو أن يتقيد بما قد يجر نقيصة في المعنى وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له ، كما جعلناه أمياً لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض ، وما كان يتزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً روى الحسن : «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت :

كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهياً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقال أبو بكر رضي الله عنه : إنما قال الشاعر :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقال عمر رضي الله عنه : أشهد أنك رسول الله يقول الله عز وجل { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وعن ابن شريح قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت : «كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت : وربما قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وفي رواية قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بين قيس طرفة العبدي :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فقال : «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي » وقيل : معناه ما كان متأتياً له ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم والبخاري :

«أنا النبي لا كذبْ *** أنا ابن عبد المطلب »

وقوله كما رواه الشيخان أيضاً :

«هل أنت إلا إصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت »

فاتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعراً ، هذا وقد روى أنه حرك الباءين في قوله : أنا النبي لا كذب وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية من قوله هل أنت إلا إصبع إلخ .

وقيل : الضمير للقرآن أي : وما يصح أن يكون القرآن شعراً ، فإن قيل : لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر والكهانة ولم يقل : وما علمناه السحر وما علمناه الكهانة ؟ أجيب : بأن الكهانة إنما كانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب وتكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكليم الجذع والحجر وغير ذلك ، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلو القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى { إن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } ( البقرة : 23 ) إلى غير ذلك ولم يقل : إن كنتم في شك من رسالتي فأخبروا بالغيوب أو أشبعوا الخلق الكثير بالشيء اليسير . فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم .

وما نفى أن يكون ما أتى به من جنس الشعر قال تعالى : { إن } أي : ما { هو } أي : هذا الذي آتاكم به { إلا ذكر } أي : شرف وموعظة { وقرآن } أي : جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والنظر إلى وجه الله العظيم { مبين } أي : ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ( 86 ) إن هو إلا ذكر للعالمين } ( ص : 86 ) كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً .