تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

محمد ليس شاعرا بل رسول الله

{ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ( 69 ) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ( 70 ) }

المفردات :

وما ينبغي له : لا يليق به ولا يصلح له .

ذكر : عظة من الله وإرشاد للثقلين .

وقرآن مبين : وكتاب مقروء واضح يقرأ للاعتبار .

التفسير :

69- { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } .

لاشك أن القرآن الكريم قد أدهش العرب ، ودخل عليهم من كل باب ، وحاكمهم إلى الحسّ ، ولفت أنظارهم إلى الكون وما فيه ، وذكّرهم بالأمم السابقة ، ووضع أمامهم القيامة والبعث والحشر ، والحساب والصراط والميزان والجنة والنار ، وقد أحسّ الكفار أنه كلام فوق طاقتهم ، وقال بعضهم : إن له حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن فرعه لجناه ، وما يقول هذا بشر ، لكنّهم لم يؤمنوا بالقرآن ، ولم يتّبعوا الرسول ، وتعددت اتهاماتهم للرسول وللقرآن ، ومن هذه التهم : أن محمدا شاعر يجيش صدره بالكلام فيخرجه رفيعا عاليا ، فنفي عنه القرآن هذه التهمة .

ومعنى الآية :

ما نزل جبريل ليعلمه الشعر ، وليس ذلك في طبيعة محمد ، فالشعر خيالات وأوهام ، وله بحور وقواف ، وأغراض معروفة وأعذبه أكذبه ، والقرآن هداية من الله ، ومواعظ معلومة ، ووحي نزل من السماء ، داعيا إلى توحيد الله ، متحدثا عن العقيدة الإسلامية ، وما ينبغي لله من كمال وصفات ، كالقدرة والإرادة والسمع والبصر ، وما يحتاج إليه الناس من صنوف العبادات والمعاملات ، فمحمد صلى الله عليه وسلم ليس شاعرا ، والقرآن ليس شعرا ، ولا فنّا من فنون القول ، لأن القرآن كتاب الإسلام قد أحيا أمّة ، وقدم فكرة ، وأنشأ دولة ، وعلّم الناس أجمعين آدابا وأحكاما وهدايات ، ولو أنصف الكفار لقالوا : القرآن شيء فوق الطّاقة ، فيه مالا نقدر عليه ، ونحن نتخَرّص في القول ، ونوجّه التهم إليه وإلى محمد ، ولو أنصفوا صادقين لقالوا : القرآن وحي من السماء .

قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم . . . } [ النمل : 14 ] .

وقال سبحانه : { فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . [ الأنعام : 33 ] .

وقد حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعض عبارات قابلة لأوزان الشعر ، مثل قوله يوم حنين : " أنا النبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " 30 .

وهذا لا يجعل صاحبه شاعرا ، لأنه كلام يرد على الخاطر من غير قصد إلى الشعر ، ولا تكلّف له ، ولا التفات منه إليه ، إن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس ، في خطبهم ورسائلهم أشياء موزونة ، ولا يسمّيها أحدا شعرا ، ولا يخطر ببال السامع ولا المتكلم أنها شعر .

وقد ذكر الزمخشري في الكشاف ، والآلوسي في تفسيره وغيرهما الحكمة من ذلك .

فقال الزمخشري :

{ وما ينبغي له . . . } أي وما يصح له ، ولا يتطلبه إن طلبه ، أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأتّ له ، ولم يتسهل كما جعلناه أمّيا . . لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض . . . ا ه .

موقف الإسلام من الشعر .

نزل القرآن الكريم عربيا مبينا ، مشتملا على صنوف البيان ، وألوان الإعجاز ، وأرقى الأساليب ، وأفصح ألوان البيان وكان النبي صلى الله عليه وسلم فصيحا بليغا وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر " .

فقد جمع الله له البيان ، والقول الحسن ، والمعرفة الكاملة بسياسة المم ، وحسن الدعوة ، وتألّف القوم ، حتى كان سببا في جمع كلمة الإسلام ، وإحياء أمّته .

قال تعالى : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا* وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } . [ الأحزاب : 46 ، 45 ] .

وقد وردت أحاديث صحيحة تذم الشعر وتنهى عنه ، كما وردت أحاديث صحيحة تمدح الشعر وتحث عليه ، وقد بين العلماء الثقات طريقة التوفيق بين هذه الأحاديث فقالوا : المنهيّ عنه من الشعر ما كان في الهجاء وذكر العورات والفخر الممقوت والمدح الكاذب ، والمحمود من الشعر ما كان فيه تمجيد للفضائل ، ودعوة إلى مكارم الأخلاق ، وآداب الإسلام ، والمحامد والمثل العليا .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرب للقول الجيد ، والخطب الفصيحة ، والشعر الحسن ، فكانت الخنساء تنشد بين يديه ، وكان يستجيد شعرها ، ويقول : " هيه يا خناس " . وقال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه : " هل تحفظ شيئا من شعر أمية بن أبي الصلت " ؟ قال نعم فأنشد بيتا ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هيه " فأنشده آخر حتى أنشده مائة بيت ، وقال صلى الله عليه وسلم عن أمية بن أبي الصلت " ؟ أسلم شعره ، وكفر قلبه " . وقال صلى الله عليه وسلم : " إن كاد أمية ليسلم " .

وقد استجاد النبي صلى الله عليه وسلم شعر كعب بن زهير ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه عند فتح مكة ، مع عدد ممكن كثرت جرائمهم ، وحاول كعب بن زهير أن يتشفع بأبي بكر الصديق فأبى عليه ، فجاء كعب بن زهير وأنشد بين يدي النبي قصيدة مشهورة جاء فيها ما يأتي :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذا ظهرت إلا أغن غضيض الطرف مكحول .

ثم يقول :

وقال كل صديق كنت آمله لا ألفينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أبالكمو فكل ما قدر الرحمان مأمول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول

نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول

وهنا خلع النبي صلى الله عليه وسلم البردة التي كان يلبسها ، وأعطاها هدية لكعب بن زهير كدليل على استجادته لشعره .

لقد كان صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا في الفصاحة والبلاغة ، وتذوق الشعر ، وكان يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ، ليلقى عليه الشعر ، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم : " اهجهم وروح القدس معك "

وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك ما لم تزود بالأخبار

فقال أبو بكر رضي الله عنه : ليس هكذا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم : " إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي "

وأخرج ابن سعد ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن : أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت هكذا : " كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء " .

والرواية : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا .

قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله ، ما علمك الشعر وما ينبغي لك .

لقد أراد الله أن يكون النبي أميّا لتكون الحجة أتمّ ، والبرهان على المشركين أقوم ، كذلك منعه قول الشعر ، حتى لا يكون لهم حجة ، أن يدَّعوا عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها ، والأباطيل التي ينمّقها وليس بوحي من عند ربه .

وقد سبق أن تكلمنا باستفاضة في هذا الموضوع عند تفسير قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون مالا يفعلون* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 224-227 ]

فمن أراد المزيد في هذا الموضوع فليرجع إلى تفسيري لهذه الآيات .